الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: "(بَابُ الْوُجُودِ) أَطْلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ اسْمَ الْوُجُودِ عَلَى نَفْسِهِ صَرِيحًا فِي مَوَاضِعَ، فَقَالَ تَعَالَى: {يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}، {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}، {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} الْوُجُودُ: الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وَهُوَ اسْمٌ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا: وُجُودُ عِلْمٍ لَدُنِّيِّ، يَقْطَعُ عُلُومَ الشَّوَاهِدِ فِي صِحَّةِ مُكَاشَفَةِ الْحَقِّ إِيَّاكَ، وَالثَّانِي: وُجُودُ الْحَقِّ وُجُودَ عَيْنٍ مُنْقَطِعًا عَنْ مَسَاغِ الْإِشَارَةِ، وَالثَّالِثُ: وُجُودُ مَقَامِ اضْمِحْلَالِ رَسْمِ الْوُجُودِ فِيهِ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي الْأَوَّلِيَّةِ. هَذَا الْبَابُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي شَمَّرَ إِلَيْهِ الْقَوْمُ، وَالْغَايَةُ الَّتِي قَصَدُوهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا مَعْنًى صَحِيحًا، وَعَبَّرُوا عَنْهُ بِالْوُجُودِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَنَظِيرِهَا، وَلَكِنْ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ مَا تَضَمَّنُهُ الْوِجْدَانُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَإِنَّهُ وِجْدَانُ الْمَطْلُوبِ تَعَلَّقَ بِاسْمٍ أَوْ صِفَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} فَهَذَا وُجُودٌ مُقَيَّدٌ بِظَفَرِهِمْ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَجِدُ مَا ظَنَّهُ مَنْ مَغْفِرَةُ اللَّهِ لَهُ حَاصِلَةٌ، وَكَذَلِكَ {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} فَهَذَا وِجْدَانُ الْكَافِرِ لِرَبِّهِ عِنْدَ حِسَابِهِ لَهُ عَلَى أَعْمَالِهِ، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ الْوُجُودَ الَّذِي يُشِيرُ الْقَوْمُ إِلَيْهِ، بَلْ مِنْهُ الْأَثَرُ الْمَعْرُوفُ ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَمِنْهُ الْأَثَرُ الْإِسْرَائِيلِيُّ: أَنَّ مُوسَى قَالَ: يَا رَبِّ أَيْنَ أَجِدُكَ؟ قَالَ: عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: عَبْدِي، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدَتْ ذَلِكَ عِنْدِي، عَبْدِي اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ أَمَا لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، عَبْدِي مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ. فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ فِي الْإِطْعَامِ وَالْإِسْقَاءِ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي وَقَوْلَهُ فِي الْعِيَادَةِ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ وَلَمْ يَقُلْ: لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، إِيذَانًا بِقُرْبِهِ مِنَ الْمَرِيضِ، وَأَنَّهُ عِنْدَهُ، لِذُلِّهِ وَخُضُوعِهِ، وَانْكِسَارِ قَلْبِهِ، وَافْتِقَارِهِ إِلَى رَبِّهِ، فَأَوْجَبَ ذَلِكَ وُجُودَ اللَّهِ عِنْدَهُ، هَذَا، وَهُوَ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ عِنْدَ عَبْدِهِ، فَوُجُودُ الْعَبْدِ عِنْدَ رَبِّهِ ظَفَّرَهُ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ. وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: سَالِكٌ، وَوَاصِلٌ، وَوَاجِدٌ. فَإِنْ قُلْتَ: اضْرِبْ لِي مَثَلًا، أَفْهَمُ بِهِ مَعْنَى الْوُصُولِ فِي هَذَا الْبَابِ وَالْوُجُودِ. قُلْتُ: إِذَا بَلَغَكَ أَنَّ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا كَنْزًا عَظِيمًا، مَنْ ظَفِرَ بِهِ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ، اسْتَغْنَى غِنَى الدَّهْرِ، وَتَرَحَّلَ عَنْهُ الْعَدَمُ وَالْفَقْرُ، فَتَحَرَّكَتْ نَفْسُهُ لِلسَّيْرِ إِلَيْهِ، فَأَخَذَ فِي التَّأَهُّبِ لِلْمَسِيرِ، فَلَمَّا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ انْتَهَى إِلَى الْكَنْزِ وَوَصَلَ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِتَحْوِيلِهِ إِلَى دَارِهِ، وَحُصُولِهِ عِنْدَهُ بَعْدُ، فَهُوَ وَاصِلٌ غَيْرُ وَاجِدٍ، وَالَّذِي فِي الطَّرِيقِ سَالِكٌ، وَالْقَاعِدُ عَنِ الطَّلَبِ مُنْقَطِعٌ، وَآخِذُ الْكَنْزِ- بِحَيْثُ حَصَلَ عِنْدَهُ، وَصَارَ فِي دَارِهِ- وَاجِدٌ، فَهَذَا الْمَعْنَى حَوْلَهُ حَامَ الْقَوْمُ، وَعَلَيْهِ دَارَتْ إِشَارَاتُهُمْ فَعِنْدَهُمُ التَّوَاجُدُ بِدَايَةٌ، وَالْوَاجِدُ وَاسِطَةٌ، وَالْوُجُودُ نِهَايَةٌ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ يَتَكَلَّفُ التَّوَاجُدَ، فَيَقْوَى عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ وَاجِدًا، ثُمَّ يَسْتَغْرِقُ فِي وَجْدِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَوْجُودِهِ. وَيَسْتَشْكِلُقَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ النُّورِيِّ: أَنَا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً بَيْنَ الْوَجْدِ وَالْفَقْدِ إِذَا وَجَدْتُ رَبِّي فَقَدْتُ قَلْبِي، وَإِذَا وَجَدْتُ قَلْبِي فَقَدْتُ رَبِّي، وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْوُجُودَ الصَّحِيحَ يُغَيِّبُ الْوَاجِدَ عَنْهُ، وَيُجَرِّدُهُ مِنْهُ، فَيَفْنَى بِمَوْجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ، وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، فَإِذَا وَجَدَ الْحَقِيقَةَ غَابَ عَنْ قَلْبِهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ، وَإِذَا غَابَتْ عَنْهُ الْحَقِيقَةُ بَقِيَ مَعَ صِفَاتِهِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ: وُجُودِي أَنْ أَغِيبَ عَنِ الْوُجُودِ *** بِمَا يَبْدُو عَلَيَّ مِنَ الشُّهُــودِ وَمَا فِي الْوَجْدِ مَوْجُودٌ وَلَكِنْ *** فَخَرْتُ بِوَجْدِ مَوْجُودِ الْوُجُودِ وَقَدْ مَثَّلَ التَّوَاجُدَ وَالْوَجْدَ وَالْوُجُودَ بِمُشَاهَدَةِ الْبَحْرِ وَرُكُوبِهِ وَالْغَرَقِ فِيهِ، فَقِيلَ: التَّوَاجُدُ يُوجِبُ اسْتِيعَابَ الْعَبْدِ، وَالْوَجْدُ: يُوجِبُ اسْتِغْرَاقَ الْعَبْدِ، وَالْوُجُودُ: يُوجِبُ اسْتِهْلَاكَ الْعَبْدِ، وَهَذِهِ عِبَارَاتٌ وَاسْتِعَارَاتٌ لِلْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الْبِدَايَةُ، وَالتَّوَسُّطُ، وَالنِّهَايَةُ، وَالسُّلُوكُ وَالْوُصُولُ- عِنْدَهُمْ- قُصُودٌ، ثُمَّ وُرُودٌ، ثُمَّ شُهُودٌ، ثُمَّ وُجُودٌ، ثُمَّ خُمُودٌ، فَيَقْصِدُ أَوَّلًا، ثُمَّ يَرِدُ، ثُمَّ يَشْهَدُ، ثُمَّ يَجِدُ، ثُمَّ تَخْمَدُ نَفْسُهُ، وَتَذْهَبُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالْوَجْدُ مَا يَرِدُ عَلَى النَّاظِرِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يُكْسِبُهُ فَرَحًا أَوْ حُزْنًا، وَهِيَ فَرْحَةٌ يَجِدُهَا الْمَغْلُوبُ عَلَيْهِ بِصِفَاتٍ شَرِيفَةٍ يَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا، وَالتَّوَاجُدُ اسْتِجْلَابُ الْوَجْدِ بِالتَّذَكُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، لِاتِّسَاعِ فُرْجَةِ الْوَجْدِ بِالْخُرُوجِ إِلَى فَضَاءِ الْوِجْدَانِ، فَلَا وَجْدَ عِنْدَهُمْ مَعَ الْوِجْدَانِ، كَمَا لَا خَبَرَ مَعَ الْعِيَانِ، وَالْوَجْدُ عُرْضَةٌ لِلزَّوَالِ، وَالْوُجُودُ ثَابِتٌ ثُبُوتَ الْجِبَالِ، وَقَدْ قِيلَ: قَدْ كَانَ يُطْرِبُنِي وَجْـدِي فَأَقْعَدَنِي *** عَنْ رُؤْيَةِ الْوَجْدِ مَنْ بِالْوَجْدِ مَوْجُودُ وَالْوَجْدُ يُطْرِبُ مَنْ فِي الْوَجْدِ رَاحَتُهُ *** وَالْوَجْدُ عِنْدَ حُضُورِ الْحَقِّ مَقْصُـودُ فَالتَّوَاجُدُ: اسْتِدْعَاءُ الْوَجْدِ بِنَوْعِ اخْتِيَارٍ وَتَكَلُّفٍ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ كَمَالُ الْوَجْدِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لَكَانَ وَجْدًا، وَبَابُ التَّفَاعُلِ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ مَبْنَاهُ عَلَى إِظْهَارِ الصِّفَةِ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، كَمَا قِيلَ: إِذًا تَخَازَرْتُ وَمَا بِي مِنْ خَزَرِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّوَاجُدِ: هَلْ يَسلَمُ لِصَاحِبِهِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَسْلَمُ لِصَاحِبِهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَإِظْهَارِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَقَوْمٌ قَالُوا: يَسْلَمُ لِلصَّادِقِ الَّذِي يَرْصُدُ لِوِجْدَانِ الْمَعَانِي الصَّحِيحَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ صَاحِبَ التَّوَاجُدِ إِنْ تَكَلَّفَهُ لِحَظٍّ وَشَهْوَةِ نَفْسٍ: لَمْ يَسْلَمْ لَهُ، وَإِنْ تَكَلَّفَهُ لِاسْتِجْلَابِ حَالٍ، أَوْ مَقَامٍ مَعَ اللَّهِ: سَلِمَ لَهُ، وَهَذَا يُعْرَفُ مِنْ حَالِ الْمُتَوَاجِدِ، وَشَوَاهِدِ صِدْقِهِ وَإِخْلَاصِهِ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي " الْوُجُودِ " الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ وَالِاتِّحَادِيَّةُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ الصَّوَابِ: هَلْ وُجُودِ الشَّيْءِ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ، أَوْ غَيْرُ مَاهِيَّتِهِ؟ أَوْ وُجُودُ الْقَدِيمِ نَفْسُ مَاهِيَّتِهِ؟ أَوْ وُجُودُ الْحَادِثِ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ؟ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ خَطَأٌ، وَأَصْحَابُهَا كَخَابِطِ عَشْوَاءَ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْوُجُودَ وَالْمَاهِيَّةَ إِنْ أُخِذَا ذِهْنِيَّيْنِ فَالْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ عَيْنُ الْمَاهِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أُخِذَا خَارِجِيَّيْنِ: اتَّحَدَا أَيْضًا، فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ وُجُودٌ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ الْخَارِجِيَّةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ كَالثَّوْبِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْبَدَنِ، هَذَا خَيَالٌ مَحْضٌ، وَكَذَلِكَ حُصُولُ الْمَاهِيَّةِ فِي الذِّهْنِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِهَا، فَلَيْسَ فِي الذِّهْنِ مَاهِيَّةٌ وَوُجُودُ مُتَغَايِرَيْنِ، بَلْ إِنْ أُخِذَ أَحَدُهُمَا ذِهْنِيًا وَالْآخَرُ خَارِجِيًّا، فَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بَحْثَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهَا بَعِيدَةٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَهِيَ مِنْ وَظَائِفِ أَرْبَابِ الْجَدَلِ وَالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ، لَا مِنْ وَظَائِفِ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ وَالْمُعَامَلَاتِ، فَهَؤُلَاءِ هِمَمُهُمْ فِي أَنْ يَجِدُوا مَطْلُوبَهُمْ، وَيَظْفَرُوا بِهِ، وَأُولَئِكَ شَاكُّونَ فِي وُجُودِهِ: هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ، أَوْ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ؟ وَهَلْ هُوَ وُجُودُ مُطْلَقٌ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ وَصْفٌ وَلَا اسْمٌ؟ أَمْ وُجُودٌ خَاصٌّ تُضَافُ إِلَيْهِ الصِّفَاتُ وَالْأَسْمَاءُ؟ فَهَؤُلَاءِ فِي وَادٍ وَهَؤُلَاءِ فِي وَادٍ. وَأَعْظَمُ الْخَلْقِ كُفْرًا وَضَلَالًا: مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَبَّهُ نَفْسُ وُجُودِ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنْ عَيْنَ وُجُودِهِ فَاضَ عَلَيْهَا فَاكْتَسَتْ عَيْنَ وُجُودِهِ، فَاتَّخَذَ حِجَابًا مِنْ أَعْيَانِهَا، وَاكْتَسَتْ جِلْبَابًا مِنْ وُجُودِهِ، وَلَبَّسَ عَلَيْهِمْ مَا لَبَّسُوهُ عَلَى ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ مِنْ عَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَإِيجَادِهِ، وَأَنَّ إِيجَادَهُ هُوَ الَّذِي فَاضَ عَلَيْهَا، وَهُوَ الَّذِي اكْتَسَتْهُ، وَأَمَّا وُجُودُهُ: فَمُخْتَصٌّ بِهِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، كَمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِمَاهِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ، فَهُوَ بَائِنٌ عَنْ خَلْقِهِ، وَالْخَلْقُ بَائِنُونَ عَنْهُ، فَوُجُودُ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، حَاصِلٌ بِإِيجَادِهِ لَهُ، فَهُوَ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، وَوُجُودَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ، وَبَانَ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَوُجُودِهِ عَنْ خَلْقِهِ.
قَوْلُهُ: " الْوُجُودُ حَدُّهُ: اسْمٌ لِلظَّفَرِ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، هَذَا الْوُجُودُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ وَجَدَ الشَّيْءَ يَجِدُهُ وُجُودًا، وَوَجَدَ ضَالَّتَهُ وِجْدَانًا، وَفِي الصِّحَاحِ: أَوْجَدَهُ اللَّهُ مَطْلُوبَهُ أَيْ أَظْفَرَهُ بِهِ، وَأَوْجَدَهُ أَيْ أَغْنَاهُ، أَيْ جَعَلَهُ ذَا جِدَةٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَيُقَالُ: وَجَدَ فُلَانٌ وُجْدًا وَوَجْدًا- بِضَمِّ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا- إِذَا صَارَ ذَا جِدَةٍ وَثَرْوَةٍ، وَوُجِدَ الشَّيْءُ فَهُوَ مَوْجُودٌ وَأَوْجَدَهُ اللَّهُ، وَيُقَالُ: وَجَدَ اللَّهُ الشَّيْءَ كَذَا وَكَذَا، عَلَى غَيْرِ مَعْنًى أَوْجَدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَدَهُ عَلَى عِلْمِهِ، بِأَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةٍ، ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَ إِيجَادِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الَّتِي عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الْوَاجِدُ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ: فَهُوَ بِمَعْنَى ذُو الْوُجْدِ وَالْغِنَى، وَهُوَ ضِدُّ الْفَاقِدِ، وَهُوَ كَالْمُوْسِعِ ذِي السَّعَةِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} أَيْ ذَوُو سَعَةٍ وَقُدْرَةٍ وَمُلْكٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} وَدَخَلَ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ الْوَاجِدُ دُونَ الْمُوجِدِ فَإِنَّ الْمُوجِدَ صِفَةُ فِعْلٍ، وَهُوَ مُعْطِي الْوُجُودِ، كَالْمُحْيِي مُعْطِي الْحَيَاةِ وَهَذَا الْفِعْلُ لَمْ يَجِئْ إِطْلَاقُهُ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، فَلَا يُعْرَفُ إِطْلَاقُ: أَوْجَدَ اللَّهُ كَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا الَّذِي جَاءَ خَلَقَهُ وَبَرَأَهُ، وَصَوَّرَهُ وَأَعْطَاهُ خَلْقَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ يُسْتَعْمَلُ فِعْلُهُ لَمْ يَجِئِ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْهُ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، فَإِنَّ الْفِعْلَ أَوْسَعُ مِنَ الِاسْمِ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْعَالًا لَمْ يَتَسَمَّ مِنْهَا بِأَسْمَاءِ الْفَاعِلِ، كَأَرَادَ، وَشَاءَ، وَأَحْدَثَ، وَلَمْ يُسَمَّ بِالْمُرِيدِ وَالشَّائِي وَالْمُحَدِثِ، كَمَا لَمْ يُسَمِّ نَفْسَهُ بِالصَّانِعِ وَالْفَاعِلِ وَالْمُتْقِنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ، فَبَابُ الْأَفْعَالِ أَوْسَعُ مِنْ بَابِ الْأَسْمَاءِ. وَقَدْ أَخْطَأَ- أَقْبَحَ خَطَأٍ- مَنِ اشْتَقَّ لَهُ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ اسْمًا، وَبَلَغَ بِأَسْمَائِهِ زِيَادَةً عَلَى الْأَلْفِ، فَسَمَّاهُ الْمَاكِرُ، وَالْمُخَادِعُ، وَالْفَاتِنُ، وَالْكَائِدُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ بَابُ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِالِاسْمِ أَوْسَعُ مِنْ تَسْمِيَتِهِ بِهِ، فَإِنَّهُ يُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ شَيْءٌ، وَمَوْجُودٌ، وَمَذْكُورٌ، وَمَعْلُومٌ، وَمُرَادٌ، وَلَا يُسَمَّى بِذَلِكَ. فَأَمَّا الْوَاجِدُ فَلَمْ تَجِئْ تَسْمِيَتُهُ بِهِ إِلَّا فِي حَدِيثِ تَعْدَادِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ ذُو الْوَجْدِ وَالْغِنَى، فَهُوَ أَوْلَى بِأَنْ يُسَمَّى بِهِ مِنَ الْمَوْجُودِ وَمِنَ الْمُوجِدِ، أَمَّا الْمَوْجُودُ فَإِنَّهُ مُنْقَسِمٌ إِلَى كَامِلٍ وَنَاقِصٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَمَا كَانَ مُسَمَّاهُ مُنْقَسِمًا لَمْ يَدْخُلِ اسْمُهُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، كَالشَّيْءِ وَالْمَعْلُومِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُسَمَّ بِالْمُرِيدِ، وَلَا بِالْمُتَكَلِّمِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ الْإِرَادَةُ وَالْكَلَامُ، لِانْقِسَامِ مُسَمَّى الْمُرِيدِ وَالْمُتَكَلِّمِ، وَأَمَّا الْمُوجِدُ فَقَدْ سَمَّى نَفْسَهُ بِأَكْمَلِ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ الْخَالِقُ، الْبَارِئُ، الْمُصَوِّرُ فَالْمُوجِدُ كَالْمُحْدِثِ وَالْفَاعِلِ وَالصَّانِعِ. وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ فِقْهِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، فَتَأَمَّلْهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ، إِنْ كَانَ فِي بَابِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ تَجْرِي فَوْقَ حُدُودِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُعَايَنِ كَانَ مُعَايَنَةً، وَهِيَ فَوْقَ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنْ كَانَ لِلطَّالِبِ فَهُوَ جَمْعِيَّةٌ لَهُ بِكُلِّهِ عَلَى مَطْلُوبِهِ، وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِ الْجَمْعِ كَانَ جَمْعِيَّةً وُجُودِيَّةً، تُغْنِيهِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ " هُوَ اسْمٌ لِثَلَاثِ مَعَانٍ، أَوَّلُهَا: وُجُودُ عِلْمٍ لَدُنِّيِّ، يَقْطَعُ عُلُومَ الشَّوَاهِدِ " الْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ- عِنْدَهُمْ- هُوَ الْمَعْرِفَةُ، وَسُمِّيَ لَدُنِّيًّا؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ مِنْ تَعْرِيفَاتِ الْحَقِّ، وَارِدٌ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ، يَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ، وَيُزِيلُ الشُّكُوكَ، وَيَحُلُّ مَحَلَّ الْعِيَانِ، فَيَصِيرُ لِصَاحِبِهِ كَالْوِجْدَانِيَّاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُهَا عَنِ النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: يَقْطَعُ عُلُومَ الشَّوَاهِدِ، فَعُلُومُ الشَّوَاهِدِ- عِنْدَهُ- هِيَ عُلُومُ الِاسْتِدْلَالِ، وَهِيَ تَنْقَطِعُ بِوِجْدَانِ هَذَا الْعِلْمِ، أَيْ يَرْتَقِي صَاحِبُهُ عَنْهَا إِلَى مَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهَا، لَا أَنَّهَا يَبْطُلُ حُكْمُهَا، وَيَزُولُ رَسْمُهَا، وَلَكِنْ صَاحِبُ الْوُجُودِ قَدِ ارْتَقَى عَنِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالشَّوَاهِدِ إِلَى الْعِلْمِ الْمُدْرَكِ بِالذَّوْقِ وَالْحِسِّ الْبَاطِنِ. قَوْلُهُ " فِي صِحَّةِ مُكَاشَفَةِ الْحَقِّ إِيَّاكَ " مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ " يَقْطَعُ عُلُومَ الشَّوَاهِدِ " أَيْ يَقْطَعُهَا فِي كَوْنِ الْحَقِّ كَشَفَ لَكَ كَشْفًا صَحِيحًا، قَطَعَ عَنْكَ الْحَاجَةَ إِلَى الشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ. قَوْلُهُ: " وَالثَّانِي: وُجُودُ الْحَقِّ وُجُودَ عَيْنٍ "، أَيْ وُجُودَ مُعَايَنَةٍ لَا وُجُودَ خَبَرٍ، وَمُرَادُهُ: مُعَايَنَةُ الْقَلْبِ لَهُ بِحَقِيقَةِ الْيَقِينِ. قَوْلُهُ " مُنْقَطِعًا عَنْ مَسَاغِ الْإِشَارَةِ " لَمَّا كَانَتِ الدَّرَجَةُ الْأَوْلَى وُجُودَ عِلْمٍ، وَهَذِهِ وُجُودُ عِيَانٍ: قَامَ الْعِيَانُ فِيهَا مَقَامَ الْإِشَارَةِ، فَأَغْنَى عَنْهَا، فَإِنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًا، وَقَدْ يَكُونُ نَظَرِيًّا، وَالضَّرُورِيُّ: أَبْعَدُ عَنِ الِالْتِفَاتِ، وَعَنْ تَطَرُّقِ الْآفَاتِ، وَعَدَمِ الْغَفَلَاتِ، فَصَاحِبُهُ يُشَاهِدُ مَعْلُومَهُ بِنُورِ الْبَصِيرَةِ، كَمَا يُشَاهِدُ الْمُبْصِرَاتِ بِنُورِ الْبَصَرِ، وَلَمَّا كَانَتْ مَرْتَبَةُ الْمَعْرِفَةِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ، وَمَرْتَبَةُ الشُّهُودِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الْمَعْرِفَةِ وَمَرْتَبَةُ الْوُجُودِ فَوْقَ مَرْتَبَةِ الشُّهُودِ، كَانَتِ الْعِبَارَةُ فِي مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْإِشَارَةُ فِي مَرْتَبَةِ الشُّهُودِ، فَإِنْ وَصَلَ إِلَى مَرْتَبَةِ الْوُجُودِ انْقَطَعَتِ الْإِشَارَاتُ، وَاضْمَحَلَّتِ الْعِبَارَاتُ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْوُجُودِ فِي حَضْرَةِ الْوُجُودِ، فَمَا لَهُ وَمَا لِلْإِشَارَةِ؟ إِذِ الْإِشَارَةُ فِي هَذَا الْبَابِ إِنَّمَا تَكُونُ إِلَى غَائِبٍ بِوَجْهٍ مَا. قَوْلُهُ: " وَالثَّالِثُ: وُجُودُ مَقَامِ اضْمِحْلَالِ رَسْمِ الْوُجُودِ فِيهِ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي الْأَوَّلِيَّةِ ". هَذَا كَلَامٌ فِيهِ قَلَقٌ وَتَعْقِيدٌ، وَهُوَ بِاللُّغْزِ أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْبَيَانِ. وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ: أَنَّهَا تَشْغَلُ صَاحِبَهَا بِمَوْجُودِهِ عَنْ إِدْرَاكِ كَوْنِهِ وَاجِدًا، فَلَمْ تَبْقِ فِيهِ بَقِيَّةٌ يَتَفَطَّنُ بِهَا لِكَوْنِهِ مُدْرِكًا لِمَوْجُودِهِ، لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ، فَقَدْ قَهَرَهُ وَمَحَقَهُ عَنْ شُعُورِهِ بِكَوْنِهِ وَاجِدًا لِمَوْجُودِهِ، فَهُوَ حَاضِرٌ مَعَ الْحَقِّ، غَائِبٌ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. فَالدَّرَجَةُ الْأُولَى: وُجُودُ عِلْمٍ، وَالثَّانِيَةُ: وُجُودُ عِيَانٍ، وَالثَّالِثَةُ: وُجُودُ مَقَامٍ اضْمَحَلَّ فِيهِ مَا سِوَى الْمَوْجُودِ، وَهَذَا مَعْنَى " اضْمِحْلَالِ رَسْمِ الْوُجُودِ فِيهِ "، وَلِهَذَا قَالَ: بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي الْأَوَّلِيَّةِ، فَإِنَّهُ إِذَا اسْتَغْرَقَ فِي شُهُودِ الْأَوَّلِيَّةِ اضْمَحَلَّ فِي هَذَا الشُّهُودِ كُلُّ حَادِثٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: " بَابُ التَّجْرِيدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} التَّجْرِيدُ: انْخِلَاعٌ عَنْ شُهُودِ الشَّوَاهِدِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَجْرِيدُ عَيْنِ الْكَشْفِ عَنْ كَسْبِ الْيَقِينِ، وَالدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَجْرِيدُ عَيْنِ الْجَمْعِ عَنْ دَرْكِ الْعِلْمِ، وَالدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: تَجْرِيدُ الْخَلَاصِ مِنْ شُهُودِ التَّجْرِيدِ ". وَجْهُ الْإِشَارَةِ بِالْآيَةِ- وَلَيْسَ هُوَ تَفْسِيرَهَا وَلَا الْمُرَادَ بِهَا- أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ مُوسَى أَنْ يَخْلَعَ نَعْلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِهِ ذَلِكَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ، إِمَّا لِتَنَالَ إِخْمَصُ قَدَمَيْهِ بِرْكَةَ الْوَادِي، وَإِمَّا لِأَنَّهُمَا كَانَتَا مِمَّا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ الْمَكَانَ بِهِمَا، قِيلَ: إِنَّهُمَا كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ غَيْرِ مُذَكًّى، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ أَمْرٌ بِالتَّجَرُّدِ مِنَ النَّعْلَيْنِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَتِلْكَ الْحَالِ. وَمَوْضِعُ الْإِشَارَةِ: أَنَّهُ أَمَرَ مُوسَى بِالتَّجَرُّدِ مِنْ نَعْلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِ الْوَادِي، فَعَلِمَ أَنَّ التَّجَرُّدَ شَرْطٌ فِي الدُّخُولِ فِيمَا لَا يَصْلُحُ الدُّخُولُ فِيهِ إِلَّا بِالتَّجَرُّدِ. وَعَلَى هَذَا، فَيُقَالُ لِمَنْ أَرَادَ الْوُصُولَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالدُّخُولَ عَلَيْهِ: اخْلَعْ مِنْ قَلْبِكَ مَا سِوَاهُ، وَادْخُلْ عَلَيْهِ، وَأَوَّلُ قَدَمٍ يُدْخَلُ بِهَا فِي الْإِسْلَامِ: أَنْ يَخْلَعَ الْأَنْدَادَ وَالْأَوْثَانَ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَتَجَرَّدَ مِنْهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: اطْرَحْ عَنْكَ مَا لَا يَكُونُ صَالِحًا لِلْوَطْءِ بِهِ عَلَى هَذَا الْبِسَاطِ، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَادِيَ لَمَّا كَانَ مِنْ أَشْرَفِ الْأَوْدِيَةِ وَأَطْهَرِهَا- وَلِذَلِكَ اخْتَارَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْدِيَةِ لِتَكْلِيمِ نَبِيِّهِ وَكَلِيمِهِ- فَأَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُعَظِّمَ ذَلِكَ الْوَادِي بِالْوَطْءِ فِيهِ حَافِيًا، كَمَا يُوطَأُ بِسَاطُ الْمَلِكِ، وَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مَوَاضِعِ صَلَوَاتِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَشَرِيعَتُنَا جَاءَتْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَصَلَّى النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّعْلَيْنِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُصَلُّوا فِي نِعَالِهِمْ، وَقَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ فَخَالِفُوهُمْ فَالسُنَّةُ فِي دِينِنَا: الصَّلَاةُ فِي النِّعَالِ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقِيلَ لَهُ: أَيُصَلِّي الرَّجُلُ فِي نَعْلَيْهِ؟ فَقَالَ: إِي وَاللَّهِ.
قَوْلُهُ: التَّجْرِيدُ دَرَجَاتُهُ: الِانْخِلَاعُ عَنْ شُهُودِ الشَّوَاهِدِ، وَالشَّوَاهِدُ عِنْدَهُ: هِيَ مَا سِوَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَالِانْخِلَاعُ عَنِ الشُّهُودِ هُوَ غَيْبَةُ الشَّاهِدِ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي مَقَامِ الْمُعَايَنَةِ: فَإِنَّهُ لَا يَنْخَلِعُ عَنْ شُهُودِ الشَّوَاهِدِ إِلَّا إِذَا كَانَ مُعَايِنًا لِلْمَشْهُودِ. قَوْلُهُ: " الدَّرَجَةُ الْأُولَى: تَجْرِيدُ عَيْنِ الْكَشْفِ عَنْ كَسْبِ الْيَقِينِ، أَيْ تَجْرِيدُ حَقِيقَةِ الْكَشْفِ عَنْ كَسْبِ الْيَقِينِ، أَيْ يَعْزِلُ مَا اكْتَسَبَهُ مِنَ الْيَقِينِ الْعِلْمِيِّ بِالْكَشْفِ الْحَقِيقِيِّ، فَتَجَرُّدُ الْكَشْفِ: أَنْ يُخَلِّصَهُ وَيُعَرِّيَهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْيَقِينِ، فَيَعْزِلَ مَا اكْتَسَبَهُ مِنَ الْيَقِينِ الْعِلْمِيِّ بِالْكَشْفِ الْحَقِيقِيِّ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: تَجْرِيدُ عَيْنِ الْجَمْعِ عَنْ دَرْكِ الْعِلْمِ. " عَيْنُ الْجَمْعِ " هِيَ حَقِيقَةُ الْجَمْعِ، وَتَجْرِيدُهُ هُوَ أَنْ لَا يَشْهَدَ لِلْعِلْمِ فِيهَا آثَارًا، فَإِنَّ الْعِلْمَ مِنْ آثَارِ الرُّسُومِ، وَحَقِيقَةُ الْجَمْعِ تَمْحُو الرُّسُومَ، فَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ أَبَدًا فِي تَجَرُّدٍ وَتَجْرِيدٍ، وَالدَّرْكُ هُوَ الْإِدْرَاكُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ دَرَجَةَ الْعِلْمِ أَسْفَلُ مِنْ دَرَجَةِ عَيْنِ الْجَمْعِ، فَيُجَرَّدُ الْجَمْعُ عَنِ الدَّرَجَةِ الَّتِي هِيَ أَسْفَلُ مِنْهُ، وَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ هَذَا حَالُ الْمُوَلَّهِينَ فِي الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْجَمْعِ. وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الِانْحِلَالِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَجَرَّدَ مِنَ الْعِلْمِ وَمَا يُوجِبُهُ؛ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ النُّورِ الَّذِي يَكْشِفُ لَهُ الْحَقَائِقَ، وَيُمَيِّزُ لَهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ، فَالْكَشْفُ وَشُهُودُ الْحَقِيقَةِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْعِلْمِ: فَقَدْ يَنْسَلِخُ صَاحِبُهُ عَنْ أَصْلِ الْإِيمَانِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: هُوَ تَجْرِيدُ الْجَمْعِ عَنِ الْوُقُوفِ مَعَ مُجَرَّدِ الْعِلْمِ، فَلَا يَرْضَى بِالْعِلْمِ عَنْ مَقَامِ جَمْعِيَّةِ حَالِهِ وَقَلْبِهِ وَهَمِّهِ عَلَى اللَّهِ، بَلْ يَرْتَقِي مِنْ دَرَجَةِ الْعِلْمِ إِلَى دَرَجَةِ الْجَمْعِ مُصَاحِبًا لِلْعِلْمِ، غَيْرَ مُفَارِقٍ لِأَحْكَامِهِ، وَلَا جَاعِلٍ لَهُ غَايَةً يَقِفُ عِنْدَهَا.
قَوْلُهُ: " الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: تَجْرِيدُ الْخَلَاصِ مِنْ شُهُودِ التَّجْرِيدِ ". يَعْنِي: أَنْ لَا يَشْهَدَ تَجْرِيدَهُ لِمَنْ يُجَرِّدُهُ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَصَاحِبُ هَذِهِ الدَّرَجَةِ دَائِمًا قَدْ فَنِيَ عَمَّا سِوَى الْحَقِّ تَعَالَى، فَكَيْفَ يَتَّسِعُ مَعَ ذَلِكَ لِشُهُودِ وَصْفِهِ وَفِعْلِهِ؟ بَلْ أَفْنَاهُ تَجْرِيدُهُ عَنْ شُهُودِ تَجْرِيدِهِ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: " بَابُ التَّفْرِيدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} التَّفْرِيدُ: اسْمٌ لِتَخْلِيصِ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَقِّ، ثُمَّ بِالْحَقِّ، ثُمَّ عَنِ الْحَقِّ ". الشَّيْخُ جَعَلَ التَّفْرِيدَ عَيْنَ التَّجْرِيدِ وَجَعَلَهُ بَعْدَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا التَّجْرِيدُ وَالتَّفْرِيدُ: أَنَّ التَّجْرِيدَ انْقِطَاعٌ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَالتَّفْرِيدَ إِفْرَادُ الْحَقِّ بِالْإِيثَارِ، فَالتَّفْرِيدُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْبُودِ، وَالتَّجْرِيدُ مُتَعَلِّقٌ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَجَعَلَهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ التَّفْرِيدُ: تَخْلِيصُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَقِّ، ثُمَّ بِهِ، ثُمَّ عَنْهُ، فَهَاهُنَا أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا: تَخْلِيصُ الْإِشَارَةِ، وَالثَّانِي: مُتَعَلِّقُ الْإِشَارَةِ. فَأَمَّا تَخْلِيصُهَا: فَهُوَ تَجْرِيدُهَا مِمَّا يُمَازِجُهَا وَيُخَالِطُهَا، وَأَمَّا مُتَعَلِّقُهَا، فَثَلَاثَةُ أُمُورٍ: الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَقِّ، وَبِهِ، وَعَنْهُ، فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ: غَايَةٌ، وَالْإِشَارَةُ بِهِ: وُجُودٌ، وَالْإِشَارَةُ عَنْهُ: إِخْبَارٌ وَتَبْلِيغٌ، فَمَنْ خَلَصَتْ إِشَارَتُهُ إِلَى الْحَقِّ كَانَ مِنَ الْمُخْلَصِينَ، وَمَنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ بِهِ فَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، وَمَنْ كَانَتْ إِشَارَتُهُ عَنْهُ فَهُوَ مِنَ الْمُبَلِّغِينَ، وَمَنِ اجْتَمَعَتْ لَهُ الثَّلَاثَةُ فَهُوَ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْعَارِفِينَ، فَالْكَمَالُ أَنْ تُشِيرَ إِلَيْهِ بِهِ عَنْهُ، فَتَخْلِيصُ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ هُوَ حَقِيقَةُ الْمُتَابَعَةِ، وَذَلِكَ هُوَ مَحْضُ الصِّدِّيقِيَّةِ، فَمَتَى اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي الْعَبْدِ، فَقَدْ خُلِعَتْ عَلَيْهِ خِلْعَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ، فَمَا كُلُّ مَنْ أَشَارَ إِلَى اللَّهِ أَشَارَ بِهِ، وَلَا كُلُّ مَنْ أَشَارَ بِهِ أَشَارَ عَنْهُ، وَالرُّسُلُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ- أَجْمَعِينَ- هُمُ الَّذِينَ كَمَّلُوا الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَةَ، فَخَلَصَتْ إِشَارَتُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَبِهِ وَعَنْهُ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ عَلَى مِنْهَاجِهِمْ، وَمَا أَكْثَرَ مَا تُشَبَّهُ الْإِشَارَةُ إِلَى اللَّهِ وَبِهِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى النَّفْسِ وَالْإِشَارَةِ بِهَا، فَيُشِيرُ إِلَى نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ، ظَانًّا أَنَّ إِشَارَتَهُ بِاللَّهِ وَإِلَى اللَّهِ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا إِلَّا خَوَاصُّ الْعَارِفِينَ، الْفُقَهَاءُ فِي مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ وَالْمَقْصُودِ، وَهَاهُنَا انْقَطَعَ مَنِ انْقَطَعَ وَاتَّصَلَ مَنِ اتَّصَلَ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! كَمْ مَنْ تَنَوَّعَ فِي الْإِشَارَةِ، وَبَالَغَ وَدَقَّقَ، وَحَقَّقَ، وَلَمْ تَعْدُ إِشَارَتُهُ نَفْسَهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، أَشَارَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ أَشَارَ بِرَبِّهِ، وَإِنَّ فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَرَائِحَةَ كَلَامِهِ لَتُنَادِي عَلَيْهِ: أَنَا، وَبِي، وَعَنِّي. فَإِذَا خَلَصَتِ الْإِشَارَةُ- بِاللَّهِ، وَعَنِ اللَّهِ- مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ؛ كَانَتْ مُتَّصِلَةً بِاللَّهِ، خَالِصَةً لَهُ، مَقْبُولَةً لَدَيْهِ، رَاضِيًا بِهَا، وَعَلَى هَذَا كَانَ حِرْصُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، لَا عَلَى كَثْرَةِ الْعَمَلِ، وَلَا عَلَى تَدْقِيقِ الْإِشَارَةِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَبِلَ مِنِّي عَمَلًا وَاحِدًا؛ لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ أَعْمَالَهُ كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ رَسُولِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَشَأْنُ الْقَوْمِ كَانَ أَجَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ عَلَى تَخْلِيصِ الْأَعْمَالِ مِنْ شَوَائِبِ النُّفُوسِ، وَمُشَارَكَاتِ الْحُظُوظِ، فَكَانُوا يَخَافُونَ- لِكَمَالِ عِلْمِهِمْ بِاللَّهِ وَحُقُوقِهِ عَلَيْهِمْ- أَنَّ أَعْمَالَهُمْ لَمْ تَخْلُصْ مِنْ شَوَائِبِ حُظُوظِهِمْ، وَمُشَارَكَاتِ أَنْفُسِهِمْ، بِحَيْثُ تَكُونُ مُتَمَحِّصَةً لِلَّهِ وَبِاللَّهِ، وَمَأْخُوذَةً عَنِ اللَّهِ، فَمَنْ وَصَلَ لَهُ عَمَلٌ وَاحِدٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ وَصَلَ إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى شَكُورٌ، إِذَا رَضِيَ مِنَ الْعَبْدِ عَمَلًا مِنْ أَعْمَالِهِ نَجَّاهُ، وَأَسْعَدَهُ بِهِ، وَثَمَّرَهُ لَهُ، وَبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَأَوْصَلَهُ بِهِ إِلَيْهِ، وَأَدْخَلَهُ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْطَعْهُ بِهِ عَنْهُ، فَمَا أَكْثَرَ الْمُنْقَطِعِينَ بِالْإِشَارَةِ عَنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَبِالْعِبَادَةِ عَنِ الْمَعْبُودِ، وَبِالْمَعْرِفَةِ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟ فَتَكُونُ الْإِشَارَاتُ وَالْمَعَارِفُ قِبْلَةَ قَلْبِهِ، وَغَايَةَ قَصْدِهِ، فَيَتَغَذَّى بِهَا، وَيَجِدُ مِنَ الْأُنْسِ بِهَا وَالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ مَا يَسْكُنُ قَلْبُهُ إِلَيْهِ، وَيَطْمَئِنُّ بِهِ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ، فَيَصِيرُ قَلْبُهُ مَحْبُوسًا عَنْ رَبِّهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَتَصِيرُ نَفْسُهُ رَاتِعَةً فِي رِيَاضِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَاجِدَةً لَهَا، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ وَاتَّصَلَ، وَعَلَى مَنْزِلِ الْوُجُودِ حَصَلَ، فَهُوَ دَقِيقُ الْإِشَارَةِ، لَطِيفُ الْعِبَارَةِ، فَفِيهِ فِي مَسَائِلِ السُّلُوكِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ لَمْ يَنْكَشِفْ عَنْهُ، وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ هَذَا الْحِجَابُ بِحَالِ التَّجْرِيدِ وَالتَّفْرِيدِ، لَا بِمُجَرَّدِ عِلْمِ ذَلِكَ، فَبِتَفْرِيدِ الْمَعْبُودِ الْمَطْلُوبِ الْمَقْصُودِ عَنْ غَيْرِهِ، وَبِتَجْرِيدِ الْقَصْدِ وَالطَّلَبِ، وَالْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَاللَّجَأِ إِلَيْهِ عَنِ الْحُظُوظِ وَإِرَادَاتِ النَّفْسِ، فَيَنْكَشِفُ عَنِ الْقَلْبِ حِجَابُهُ، وَيَزُولُ عَنْهُ ظَلَامُهُ، وَيَطْلُعُ فِيهِ فَجْرُ التَّوْحِيدِ، وَتَبْزُغُ فِيهِ شَمْسُ الْيَقِينِ، وَتَسْتَنِيرُ لَهُ الطَّرِيقُ الْغَرَّاءُ، وَالْمَحَجَّةُ الْبَيْضَاءُ الَّتِي لِيَلُهَا كَنَهَارِهَا.
قَالَ: " فَأَمَّا تَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْحَقِّ: فَعَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: تَفْرِيدُ الْقَصْدِ عَطَشًا، ثُمَّ تَفْرِيدُ الْمَحَبَّةِ تَلَفًا، ثُمَّ تَفْرِيدُ الشُّهُودِ اتِّصَالًا ". ذَكَرَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: تَفْرِيدَ الْقَصْدِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالشُّهُودِ، فَالْقَصْدُ بِدَايَةٌ، وَالشُّهُودُ نِهَايَةٌ وَالْمَحَبَّةُ وَاسِطَةٌ، فَيُفْرِدُ قَصْدَهُ وَحُبَّهُ وَشُهُودَهُ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إِفْرَادَ مَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ وَمَشْهُودِهِ، فَيَكُونُ فَرْدًا لِفَرْدٍ، فَلَا يَنْقَسِمُ طَلَبُهُ، وَلَا حُبُّهُ، وَلَا شُهُودُهُ، وَلَا يَنْقَسِمُ مَطْلُوبُهُ وَمَحْبُوبُهُ وَمَشْهُودُهُ، فَتَفْرِيدُ الطَّلَبِ وَالْمَحَبَّةِ وَالشُّهُودِ صِدْقٌ، وَتَفْرِيدُ الْمَطْلُوبِ وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَشْهُودِ إِخْلَاصٌ. فَالصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ: هُوَ أَنْ تَبْذُلَ كُلَّكَ لِمَحْبُوبِكَ وَحْدَهُ، ثُمَّ تَحْتَقِرُ مَا بَذَلْتَ فِي جَنْبِ مَا يَسْتَحِقُّهُ، ثُمَّ لَا تَنْظُرُ إِلَى بَذْلِكَ. وَقَيَّدَ تَفْرِيدَ الْقَصْدِ بِالْعَطَشِ، وَتَفْرِيدَ الْمَحَبَّةِ بِالتَّلَفِ، وَتَفْرِيدَ الشُّهُودِ بِالِاتِّصَالِ، وَالْعَطَشُ- كَمَا قَالَ- هُوَ غَلَبَةُ وُلُوعٍ بِمَأْمُولٍ؟ وَالتَّلَفُ: هُوَ الْمَحَبَّةُ الْمُهْلِكَةُ، وَالِاتِّصَالُ: سُقُوطُ الْأَغْيَارِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، فَهَذَا حُكْمُ التَّفْرِيدِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى.
قَالَ: " وَأَمَّا تَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ بِالْحَقِّ: فَعَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، تَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ بِالِافْتِخَارِ بَوْحًا، وَتَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ بِالسُّلُوكِ مُطَالَعَةً، وَتَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ بِالْقَبْضِ غَيْرَةً. ذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: الِافْتِخَارَ، وَالسُّلُوكَ، وَالْقَبْضَ، فَالِافْتِخَارُ نَوْعَانِ: مَذْمُومٌ، وَمَحْمُودٌ، فَالْمَذْمُومُ: إِظْهَارُ مَرْتَبَتِهِ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ تَرَفُّعًا عَلَيْهِمْ، وَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَالْمَحْمُودُ: إِظْهَارُ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ، وَالْمَقَامَاتِ الشَّرِيفَةِ، بَوْحًا بِهَا، أَيْ تَصْرِيحًا وَإِعْلَانًا، لَا عَلَى وَجْهِ الْفَخْرِ، بَلْ عَلَى وَجْهِ تَعْظِيمِ النِّعْمَةِ، وَالْفَرَحِ بِهَا، وَذِكْرِهَا، وَنَشْرِهَا، وَالتَّحَدُّثِ بِهَا، وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ فِي إِظْهَارِهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْـرَ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْـرَ وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ وَلَا فَخْـرَ وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ أَتَى عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا وَإِنِّي لِثَالِثُ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ إِلَيَّ: أَنَّهُ لَا يُحِبُّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُنِي إِلَّا مُنَافِقٌ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ: إِنَّ هَاهُنَا عِلْمًا جَمًّا، لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَبْعِينَ سُورَةً، وَإِنَّ زَيْدًا لَيَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، وَقَالَ أَيْضًا: مَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ آيَةٌ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ نَزَلَتْ؟ وَمَاذَا أُرِيدَ بِهَا؟ وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: لَأَنْ تَخْتَلِفُ فِيَّ الْأَسِنَّةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُحَدِّثَ نَفْسِي فِي الصَّلَاةِ بِغَيْرِ مَا أَنَا فِيهِ، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ. وَالصَّادِقُ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ، فَتَارَةً يَبُوحُ بِمَا أَوْلَاهُ رَبُّهُ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْهِ، لَا يُطِيقُ كِتْمَانَ ذَلِكَ، وَتَارَةً يُخْفِيهِ وَيَكْتُمُهُ، لَا يُطِيقُ إِظْهَارَهُ، فَتَارَةً يَقْبِضُ، وَتَارَةً يَبْسُطُ وَيَنْشَطُ، وَتَارَةً يَجِدُ لِسَانًا قَائِلًا لَا يَسْكُتُ، وَتَارَةً لَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ، وَتَارَةً تَجِدُهُ ضَاحَكًا مَسْرُورًا، وَتَارَةً بَاكِيًا حَزِينًا، وَتَارَةً يَجِدُ جَمْعِيَّةً لَا سَبِيلَ لِلتَّفْرِقَةِ عَلَيْهَا، وَتَارَةً تَفْرِقَةً لَا جَمْعِيَّةَ مَعَهَا، وَتَارَةً يَقُولُ: وَاطَرَبَاهُ! وَأُخْرَى يَقُولُ: وَاحَرْبَاهُ! بِخِلَافِ مَنْ هُوَ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ لَا يُوجَدُ عَلَى غَيْرِهِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَالصَّادِقُ لَوْنٌ. قَوْلُهُ: " وَتَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ بِالسُّلُوكِ مُطَالَعَةً "، أَيْ تَجْرِيدُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ بِالسُّلُوكِ اطِّلَاعًا عَلَى حَقَائِقِهِ. قَوْلُهُ: " وَتَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ بِالْقَبْضِ غَيْرَةً "، أَيْ تَخْلِيصُ الْإِشَارَةِ إِلَى الْمَطْلُوبِ بِالْقَبْضِ غَيْرَةً عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُ تَارَةً يُفْرِدُ إِشَارَتَهُ بِمَا أَوْلَاهُ الْحَقُّ، لَا يَكْتُمُهُ وَلَا يُخْفِيهِ، وَتَارَةً يُفْرِدُ إِشَارَتَهُ بِحَقَائِقِ السُّلُوكِ اطِّلَاعًا عَلَيْهَا، وَإِطْلَاعًا لِغَيْرِهِ، وَتَارَةً يُشِيرُ بِالْقَبْضِ غَيْرَةً وَتَسَتُّرًا، فَيُشِيرُ بِالِافْتِخَارِ تَارَةً، وَبِالِاطِّلَاعِ تَارَةً، وَبِالْقَبْضِ تَارَةً. فَافْتِخَارُهُ بِالْمُنْعِمِ وَنِعَمِهِ، لَا بِنَفْسِهِ وَصِفَتِهِ، وَإِطْلَاعُهُ لِغَيْرِهِ: تَعْلِيمٌ وَإِرْشَادٌ وَتَبْصِيرٌ، وَقَبَضُهُ غَيْرَةٌ وَسَتْرٌ، وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ: أَنَّ الصَّادِقَ بِحَسَبِ دَوَاعِي صِدْقِهِ وَحَالِهِ مَعَ اللَّهِ، وَحُكْمِ وَقْتِهِ وَمَا أُقِيمُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: " وَأَمَّا تَفْرِيدُ الْإِشَارَةِ عَنِ الْحَقِّ: فَانْبِسَاطٌ بِبَسْطِ ظَاهِرٍ: يَتَضَمَّنُ قَبْضًا خَالِصًا، لِلْهِدَايَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، يُرِيدُ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْإِشَارَةِ مُنْبَسِطٌ بَسْطًا ظَاهِرًا، مَعَ أَنَّ بَاطِنَهُ مَجْمُوعٌ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ الْقَبْضُ الْخَالِصُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، فَهُوَ فِي بَاطِنِهِ مَقْبُوضٌ، لِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ، وَفِي ظَاهِرِهِ مَبْسُوطٌ مَعَ الْخَلْقِ بَسْطًا ظَاهِرًا لِقُوَّتِهِ، قَصْدًا لِهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَيْهِ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ: أَنَّهُ مَبْسُوطٌ بِظَاهِرِهِ لِدَعْوَةِ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ، وَمَقْبُوضٌ بِبَاطِنِهِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ، فَظَاهِرُهُ مُنْبَسِطٌ مَعَ الْخَلْقِ، وَبَاطِنُهُ مُنْقَبِضٌ عَنْهُمْ، لِقُوَّةِ تَعَلُّقِهِ بِاللَّهِ وَاشْتِغَالِهِ بِهِ عَنْهُمْ، فَهُوَ كَائِنٌ بَائِنٌ، دَاخِلٌ خَارِجٌ، مُتَّصِلٌ مُنْفَصِلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} فَأَمَرَهُ بِتَجْرِيدِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَتَجْرِيدِ عُبُودِيَّتِهِ وَحْدَهُ، وَهَذَانِ هُمَا أَصْلَا الدِّينِ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارُهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَالَ: " بَابُ الْجَمْعِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}. قُلْتُ: اعْتَقَدَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ: سَلْبُ فِعْلِ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْهُ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى، وَجَعَلُوا ذَلِكَ أَصْلًا فِي الْجَبْرِ، وَإِبْطَالِ نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إِلَى الْعِبَادِ، وَتَحْقِيقِ نِسْبَتِهَا إِلَى الرَّبِّ وَحْدَهُ، وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، فَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَوَجَبَ طَرْدُهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، فَيُقَالُ: مَا صَلَّيْتَ إِذْ صَلَّيْتَ، وَمَا صُمْتَ إِذْ صُمْتَ، وَمَا ضَحَّيْتَ إِذْ ضَحَّيْتَ، وَلَا فَعَلْتَ كُلَّ فِعْلٍ إِذْ فَعَلْتَهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنْ طَرَدُوا ذَلِكَ لَزِمَهُمْ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ- طَاعَتِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ- إِذْ لَا فَرْقَ، فَإِنْ خَصُّوهُ بِالرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحْدَهُ وَأَفْعَالِهِ جَمِيعِهَا، أَوْ رَمْيِهِ وَحْدَهُ؛ تَنَاقَضُوا، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُوَفَّقُوا لِفَهْمِ مَا أُرِيدَ بِالْآيَةِ. وَبَعْدُ، فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ رَمْيِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَبْضَةٍ مِنَ الْحَصْبَاءِ، فَلَمْ تَدَعْ وَجْهَ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا أَصَابَتْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الرَّمْيَةَ مِنَ الْبَشَرِ لَا تَبْلُغُ هَذَا الْمَبْلَغَ، فَكَانَ مِنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَبْدَأُ الرَّمْيِ، وَهُوَ الْحَذْفُ، وَمِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِهَايَتُهُ، وَهُوَ الْإِيصَالُ، فَأَضَافَ إِلَيْهِ رَمْيَ الْحَذْفِ الَّذِي هُوَ مَبْدَؤُهُ، وَنَفَى عَنْهُ رَمْيَ الْإِيصَالِ الَّذِي هُوَ نِهَايَتُهُ، وَنَظِيرُ هَذَا: قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ نَفْسِهَا {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} ثُمَّ قَالَ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فَأَخْبَرَهُ: أَنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي تَفَرَّدَ بِقَتْلِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِكُمْ أَنْتُمْ، كَمَا تَفَرَّدَ بِإِيصَالِ الْحَصَى إِلَى أَعْيُنِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِهِ وَلَكِنْ وَجْهُ الْإِشَارَةِ بِالْآيَةِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقَامَ أَسْبَابًا ظَاهِرَةً، كَدَفْعِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَوَلِّى دَفْعِهِمْ، وَإِهْلَاكِهِمْ بِأَسْبَابٍ بَاطِنَةٍ غَيْرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَظْهَرُ لِلنَّاسِ، فَكَانَ مَا حَصَلَ مِنَ الْهَزِيمَةِ وَالْقَتْلِ وَالنُّصْرَةِ مُضَافًا إِلَيْهِ وَبِهِ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ. قَالَ: " الْجَمْعُ تَعْرِيفُهُ: مَا أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ، وَقَطَعَ الْإِشَارَةَ، وَشَخَصَ عَنِ الْمَاءِ وَالطِّينِ، بَعْدَ صِحَّةِ التَّمْكِينِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ التَّلْوِينِ، وَالْخَلَاصِ مِنْ شُهُودِ الثَّنَوِيَّةِ، وَالتَّنَافِي مِنْ إِحْسَاسِ الِاعْتِلَالِ، وَالتَّنَافِي مِنْ شُهُودِ شُهُودِهَا، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ: جَمْعُ عِلْمٍ، ثُمَّ جَمْعُ وُجُودٍ، ثُمَّ جَمْعُ عَيْنٍ. قَوْلُهُ: " الْجَمْعُ: مَا أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ " هَذَا حَدٌّ غَيْرُ مُحْصِّلٍ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُحْمَدُ وَمَا يُذَمُّ مِنَ الْجَمْعِ وَالتَّفْرِقَةِ، فَإِنَّ " الْجَمْعَ " يَنْقَسِمُ إِلَى صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ، وَ " التَّفْرِقَةُ " تَنْقَسِمُ إِلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يُحْمَدُ مُطْلَقًا، وَلَا يُذَمُّ مُطْلَقًا، فَيُرَادُ بِالْجَمْعِ: جَمْعُ الْوُجُودِ، وَهُوَ جَمْعُ الْمَلَاحِدَةِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَيُرِيدُونَ بِالتَّفْرِقَةِ: الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَبَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: الْجَمْعُ مَا أَسْقَطَ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ، وَيَقُولُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَصْحَابُ جَمْعِ الْوُجُودِ، وَلِهَذَا صَرَّحَ بِمَا ذَكَرْنَا مُحَقِّقُو الْمَلَاحِدَةِ، فَقَالُوا: التَّفْرِقَةُ اعْتِبَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ وُجُودٍ وَوُجُودٍ، فَإِذَا زَالَ الْفَرْقُ فِي نَظَرِ الْمُحَقِّقِ حَصَلَ لَهُ حَقِيقَةُ الْجَمْعِ. وَيُرَادُ بِالْجَمْعِ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ عَلَى الْمُرَادِ الْمَطْلُوبِ وَحْدَهُ، وَبِالتَّفْرِقَةِ: تَفْرِقَةُ الْهِمَّةِ وَالْإِرَادَةِ، وَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ الصَّحِيحُ، وَالتَّفْرِقَةُ الْمَذْمُومَةُ، فَحَدُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ: مَا أَزَالَ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ، وَأَمَّا جَمْعٌ يُزِيلُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ، وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَالْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ فَأَبْطَلُ الْبَاطِلِ، وَتِلْكَ التَّفْرِقَةُ هِيَ الْحَقُّ، وَأَهْلُ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ هُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الْجَمْعِ هُمْ أَهْلُ الْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ وَالْوَثَنِيَّةِ. وَيُرَادُ بِالْجَمْعِ: جَمْعُ الشُّهُودِ، وَبِالتَّفْرِقَةِ: مَا يُنَافِي ذَلِكَ، فَإِذَا زَالَ الْفَرْقُ فِي نَظَرِ الْمُشَاهِدِ، وَهُوَ مُثْبِتٌ لِلْفَرْقِ؛ كَانَ ذَلِكَ جَمْعًا فِي شُهُودِهِ خَاصَّةً، مَعَ تَحَقُّقِهِ بِالْفَرْقِ. فَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَالْجَمْعُ الصَّحِيحُ: مَا أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ الطَّبِيعِيَّةَ النَّفْسِيَّةَ، وَهِيَ التَّفْرِقَةُ الْمَذْمُومَةُ، وَأَمَّا التَّفْرِقَةُ الْأَمْرِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ- بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ- فَلَا يُحْمَدُ جَمْعٌ أَسْقَطَهَا، بَلْ يُذَمُّ كُلَّ الذَّمِّ، وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْمُجْمَلَاتِ دَخَلَ عَلَى أَصْحَابِ السُّلُوكِ وَالْإِرَادَةِ مَا دَخَلَ. قَوْلُهُ " وَقَطَعَ الْإِشَارَةَ " هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ " مَا أَسْقَطَ التَّفْرِقَةَ " قَالَ أَهْلُ الْإِلْحَادِ: لَمَّا كَانَتِ الْإِشَارَةُ نِسْبَةً بَيْنَ شَيْئَيْنِ- مُشِيرٍ، وَمُشَارٍ إِلَيْهِ- كَانَتْ مُسْتَلْزِمَةً لِلْثَنَوِيَّةِ، فَإِذَا جَاءَتِ الْوَحْدَةُ جَمْعِيَّةً، وَذَهَبَتِ الثَّنَوِيَّةُ؛ انْقَطَعَتِ الْإِشَارَةُ. وَقَالَ أَهْلُ التَّوْحِيدِ: إِنَّمَا تَنْقَطِعُ الْإِشَارَةُ عِنْدَ كَمَالِ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى اللَّهِ، فَلَا يَبْقَى فِي صَاحِبِ هَذِهِ الْجَمْعِيَّةِ مَوْضِعٌ لِلْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ جَمْعِيَّتَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُرَادِ غَيْبَتُهُ عَنِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ جَمْعِيَّتَهُ أَفْنَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِشَارَتِهِ، فَفِي مَقَامِ الْفَنَاءِ تَنْقَطِعُ الْإِشَارَةُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ. قَوْلُهُ: " وَشَخَصَ عَنِ الْمَاءِ وَالطِّينِ "، هَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ بِالْمَاءِ وَالطِّينِ بَنِي آدَمَ، وَنَفْسَهُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، أَيْ شَخَصَ عَنِ النَّظَرِ إِلَى النَّاسِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ، وَتَعَلَّقَ الْقَلْبُ بِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَخَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْعَلَائِقِ، وَأَصْعَبَهَا وَأَشَدَّهَا قَطْعًا لِصَاحِبِهَا هِيَ عَلَائِقُهُمْ، فَإِذَا شَخَصَ قَلْبُهُ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَعَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ أَبْعَدُ إِلَيْهِ مِنْهُمْ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَفِي ذِكْرِ الْمَاءِ وَالطِّينِ تَقْرِيرٌ لِهَذَا الشُّخُوصِ عَنْهُمْ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى تَعَيُّنِهِ وَوُجُوبِهِ، فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ مِنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ بَشَرٌ ضَعِيفٌ، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ- وَلَا لِمَنْ تَعَلَّقَ بِهِ- جَلْبَ مَنْفَعَتِهِ، وَلَا دَفْعَ مَضَرَّةٍ، فَإِنَّ الْمَاءَ وَالطِّينَ مُنْفَعِلٌ لَا فَاعِلٌ، وَعَاجِزٌ مَهِينٌ لَا قَوِيٌّ مَتِينٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} وَأَخْبَرَ: أَنَّهُ خَلَقَنَا {مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} فَحَقِيقٌ بِابْنِ الْمَاءِ وَالطِّينِ أَنْ يَشْخَصَ عَنْهُ الْقَلْبُ، لَا إِلَيْهِ، وَأَنْ يُعَوِّلَ عَلَى خَالِقِهِ وَحْدَهُ لَا عَلَيْهِ وَأَنْ يَجْعَلَ رَغْبَتَهُ كُلَّهَا فِيهِ وَفِيمَا لَدَيْهِ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي- الَّذِي يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ-: أَنْ يَشْخَصَ عَنْ أَحْكَامِ الطَّبِيعَةِ السُّفْلِيَّةِ النَّاشِئَةِ مِنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ، وَعَنْ مُتَعَلِّقَاتِهَا إِلَى أَحْكَامِ الْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ. وَلَمَّا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بِحِكْمَتِهِ وَعَجِيبِ صُنْعِهِ- قَدْ جَعَلَ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبًا مِنْ جَوْهَرَيْنِ: جَوْهَرٍ طَبِيعِيٍّ كَثِيفٍ، وَهُوَ الْجِسْمُ، وَجَوْهَرٍ رُوحَانِيٍّ لَطِيفٍ، وَهُوَ الرُّوحُ، وَمِنْ شَأْنِ كُلِّ شَكْلٍ أَنْ يَمِيلَ إِلَى شَكْلِهِ، وَمِنْ طَبْعِ كُلِّ مِثْلٍ أَنْ يَنْجَذِبَ إِلَى مِثْلِهِ- صَارَ الْإِنْسَانُ يَنْجَذِبُ إِلَى الْعَالَمِ الطَّبِيعِيِّ، بِمَا فِيهِ مِنَ الْكَثَافَةِ، وَإِلَى الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ بِمَا فِيهِ مِنَ اللَّطَافَةِ، فَصَارَ فِي الْإِنْسَانِ قُوَّتَانِ مُتَضَادَّتَانِ إِحْدَاهُمَا: تَجْذِبُهُ سُفْلًا، وَالثَّانِيَةُ: تَجْذِبُهُ عُلْوًا، فَمَنْ شَخَصَ عَنْ طَبِيعَةِ الْمَاءِ وَالطِّينِ، إِلَى مَحَلِّ الْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ، الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ؛ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْمَحْمُودِ، الَّذِي جَمَعَهُ مِنْ مُتَفَرِّقَاتِ النَّفْسِ وَالطَّبْعِ. قَوْلُهُ: " بَعْدَ صِحَّةِ التَّمْكِينِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنَ التَّلْوِينِ، وَالْخَلَاصِ مِنْ شُهُودِ الثَّنَوِيَّةِ "، مَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْخَصَ عَنِ الْمَاءِ وَالطِّينِ إِلَّا بَعْدَ صِحَّةِ تَمَكُّنِهِ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَبَرَاءَتِهِ مِنَ التَّلْوِينِ، فَشَرْطُ الشَّيْخِ حُصُولُ التَّمْكِينَ لَهُ، وَانْتِفَاءُ التَّلْوِينِ عَنْهُ، وَخَلَاصُهُ مِنْ شُهُودِ الثَّنَوِيَّةِ. فَالتَّلْوِينُ: تَلَوُّنُهُ لِإِجَابَةِ دَوَاعِي الطَّبْعِ وَالنَّفْسِ، وَشُهُودُ الثَّنَوِيَّةِ: عِبَارَةٌ مُجْمَلَةٌ مُحْتَمَلَةٌ، وَقَدْ حَمَلَهَا الْمُلْحِدُ عَلَى أَنَّهُ يَشْهَدُ عَبْدًا وَرَبًّا، وَقَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَخَالِقًا وَمَخْلُوقًا، وَالتَّوْحِيدُ الْمَحْضُ: أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ ذَلِكَ بِشُهُودِهِ وَحْدَةَ الْوُجُودِ، وَمَتَى شَهِدَ تَعَدُّدَ الْوُجُودِ كَانَ ثَنَوِيًّا عِنْدَ الْمَلَاحِدَةِ. وَأَمَّا الْمُوَحِّدُونَ: فَالثَّنَوِيَّةُ الَّتِي يَجِبُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا: أَنْ يَتَّخِذَ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، فَيَشْهَدَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ شَهِدَ مَعَ اللَّهِ مَوْجُودًا غَيْرَهُ، وَهُوَ مُوجِدُهُ وَخَالِقُهُ وَفَاطِرُهُ: فَلَيْسَ بِثَنَوِيَّةٍ، بَلْ هُوَ تَوْحِيدٌ خَالِصٌ، وَلَا يَتِمُّ لَهُ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِهَذَا الشُّهُودِ لِيَصِحَّ لَهُ نَفْيُ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَنْفِي الْإِلَهِيَّةَ عَمَّا لَا يَشْهَدُهُ وَيَشْهَدُ نَفْيَهَا عَنْهُ؟ وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ صَاحِبَ الْجَمْعِ إِذَا شَهِدَ رَبًّا وَعَبْدًا، وَخَالِقًا وَمَخْلُوقَاتٍ، وَآمِرًا وَفَاعِلًا مَنَفِّذًا، وَمَحَرِّكًا، وَمَتَحَرِّكًا، وَوَلِيًّا وَعَدُوًّا: كَانَ ذَلِكَ مُوجَبَ عَقْدِ التَّوْحِيدِ. وَصِحَّةُ التَّمْكِينِ هِيَ حِفْظُ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ بَقَاءُ شُهُودِ الرُّسُومِ فِي مَرْتَبَتِهَا. وَكَأَنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِي تَخْطِفُهُمْ لَوَائِحُ شُهُودِ الْجَمْعِ، وَتَمَكُّنُهُمْ ضَعِيفٌ، فَيُنْكِرُونَ صُوَرَ الْخَلْقِ، حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ: أَنَا نُورٌ مِنْ نُورِ رَبِّي، لِمَا يَغْلِبُ عَلَى أَحَدِهِمْ مِنْ شُهُودِ الْجَمْعِ، وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ فِي الْبَقَاءِ، وَهَذَا قَدْ يَعْرِضُ لِلصَّادِقِ أَحْيَانًا، فَيَعْلَمُ أَنَّهُ غَالِطٌ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْأَصْلِ، وَيُحَكِّمُ الْعِلْمَ عَلَى الْحَالِ، فَإِذَا صَحَا عَلِمَ أَنَّهُ غَالِطٌ مُخْطِئٌ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ قَالَ أَبُو يَزِيدَ: سُبْحَانِي، وَمَا فِي الْجُبَّةِ إِلَّا اللَّهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَأَخَذَ قَوْمٌ هَذِهِ الشَّطَحَاتِ فَجَعَلُوهَا غَايَةً يَجْرُونَ إِلَيْهَا، وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهَا، فَالشَّيْخُ شَرَطَ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ شُهُودُ الْجَمْعِ إِلَّا لِمَنْ تَمَكَّنَ فِي شُهُودِ طَوْرِ الْبَقَاءِ. قَوْلُهُ: " وَالتَّنَافِي مِنَ الْإِحْسَاسِ بِالِاعْتِلَالِ ". الِاعْتِلَالُ عِنْدَهُمْ: هُوَ التَّفْرِقَةُ فِي الْأَسْبَابِ، وَالْوُقُوفُ مَعَ الرَّبْطِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمُسَبِّبَاتِ وَأَسْبَابِهَا، وَذَلِكَ عَقْدٌ لَا يَحِلُّهُ إِلَّا شُهُودُ الْجَمْعِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنَ الْعَجْمِ وَالتَّعْقِيدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ " وَالتَّنَافِي مِنْ شُهُودِ شُهُودِهَا " وَمُرَادُهُ: أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْهُ شُهُودُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ- الَّتِي ذَكَرَهَا- كُلِّهَا، وَأَنْ يَفْنَى عَنْ هَذَا الشُّهُودِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَفْنَ عَنْهَا كُلِّهَا، وَعَنْ شُهُودِ فَنَائِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَعَهَا؛ لِأَنَّهُ يَحِسُّ بِهَا، وَلَا يَقَعُ الْإِحْسَاسُ إِلَّا بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ صَاحِبِ الْإِحْسَاسِ، فَإِذَا غَابَ عَنْ شُهُودِهَا، ثُمَّ عَنْ شُهُودِ الشُّهُودِ: فَقَدِ اسْتَقَرَّ قَدَمُهُ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَمَالٍ، وَلَا مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُعْطِي كَمَالًا، وَلَا فِيهِ مَعْرِفَةٌ، وَلَا عُبُودِيَّةٌ، وَلَا دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ الْبَتَّةَ، وَلَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَا وَصَفَهُ أَهْلُ الطَّرِيقِ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَغَايَتُهُ أَنْ يُشَبِّهَ صَاحِبَهُ بِالْغَائِبِ عَنْ عَقْلِهِ وَحِسِّهِ وَإِدْرَاكِهِ، وَغَايَتُهُ: أَنْ يَكُونَ عَارِضًا مِنْ عَوَارِضَ الطَّرِيقِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ غَايَةً. وَلَمَّا جَعَلَهُ مَنْ جَعَلَهُ غَايَةً مَطْلُوبَةً، يُشَمِّرُ إِلَيْهَا السَّالِكُونَ؛ دَخَلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ عَلَى مَنْ شَمَّرَ إِلَيْهِ مَا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَالْعُبُودِيَّةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْعَبْدِ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَوْلُهُ: " وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْجَمْعُ: جَمْعِ عِلْمٍ، ثُمَّ جَمْعِ وُجُودٍ، ثُمَّ جَمْعِ عَيْنٍ، فَأَمَّا جَمْعُ الْعِلْمِ: فَهُوَ تَلَاشِي عُلُومِ الشَّوَاهِدِ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ صَرْفًا، وَأَمَّا جَمْعُ الْوُجُودِ: فَهُوَ تَلَاشِي نِهَايَةِ الِاتِّصَالِ فِي عَيْنِ الْوُجُودِ مَحْقًا، وَأَمَّا جَمْعُ الْعَيْنِ: فَهُوَ تَلَاشِي كُلِّ مَا تُقِلُّهُ الْإِشَارَةُ فِي ذَاتِ الْحَقِّ حَقًّا. عُلُومُ الشَّوَاهِدِ هِيَ مَا حَصَلَتْ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، وَبِالْمَصْنُوعِ عَلَى الصَّانِعِ، فَالْمَصْنُوعَاتُ شَوَاهِدُ وَأَدِلَّةٌ وَآثَارٌ، وَعُلُومُ الشَّوَاهِدِ: هِيَ الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى الشَّوَاهِدِ الْحَاصِلَةِ عَنْهَا، وَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ إِلْهَامًا بِلَا سَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ، وَلَا اسْتِدْلَالٍ، وَلِهَذَا سُمِّيَ لَدُنِّيًّا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي عَلَّمَ الْعِبَادَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ أَخَصُّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ أَضَافَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، كَبَيْتِهِ وَنَاقَتِهِ وَبَلَدِهِ وَعَبْدِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتَضْمَحِلُّ الْعُلُومُ الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى الْأَدِلَّةِ وَالشَّوَاهِدِ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، الْحَاصِلِ بِلَا سَبَبٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، هَذَا مَضْمُونُ كَلَامِهِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ: هُوَ الْعِلْمُ الْحَقِيقِيُّ، وَأَمَّا مَا يَدَّعِي حُصُولَهُ بِغَيْرِ شَاهِدٍ وَلَا دَلِيلٍ: فَلَا وُثُوقَ بِهِ، وَلَيْسَ بِعِلْمٍ، نَعَمْ قَدْ يَقْوَى الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِالشَّوَاهِدِ وَيَتَزَايَدُ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمَعْلُومُ كَالْمَشْهُودِ، وَالْغَائِبُ كَالْمُعَايَنِ، وَعِلْمُ الْيَقِينِ كَعَيْنِ الْيَقِينِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ شُعُورًا أَوَّلًا، ثُمَّ تَجْوِيزًا، ثُمَّ ظَنًّا، ثُمَّ عِلْمًا، ثُمَّ مَعْرِفَةً، ثُمَّ عِلْمَ يَقِينٍ، ثُمَّ حَقَّ يَقِينٍ، ثُمَّ عَيْنَ يَقِينٍ، ثُمَّ تَضْمَحِلُّ كُلُّ مَرْتَبَةٍ فِي الَّتِي فَوْقَهَا، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْحُكْمُ لَهَا دُونَهَا، فَهَذَا حَقٌّ. وَأَمَّا دَعْوَى وُقُوعِ نَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ: فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَبَطَ التَّعْرِيفَاتِ بِأَسْبَابِهَا، كَمَا رَبَطَ الْكَائِنَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَلَا يَحْصُلُ لِبِشْرٍ عِلْمٌ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَيَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رُسُلَهُ بِأَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الَّتِي دَلَّتْهُمْ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَهُمْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَدَلَّتْ أُمَمَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ مَعَهُمْ أَعْظَمُ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَهُمْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَانَتْ بَرَاهِينُهُمْ أَدِلَّةً وَشَوَاهِدَ لَهُمْ وَلِلْأُمَمِ، فَالْأَدِلَّةُ وَالشَّوَاهِدُ الَّتِي كَانَتْ لَهُمْ، وَمَعَهُمْ أَعْظَمُ الشَّوَاهِدِ وَالْأَدِلَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى شَهِدَ بِتَصْدِيقِهِمْ بِمَا أَقَامَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّوَاهِدِ، فَكُلُّ عِلْمٍ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ فَدَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَحُكْمٌ لَا بُرْهَانَ عِنْدَ قَائِلِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِلْمًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَدُنِّيًّا. فَالْعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ: مَا قَامَ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ، وَمَا عَدَاهُ فَلَدُنِّيٌّ مِنْ لَدُنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَقَدِ انْبَثَقَ سَدُّ الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، وَرَخُصَ سِعْرُهُ، حَتَّى ادَّعَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ أَنَّ عِلْمَهُمْ لَدُنِّيٌّ، وَصَارَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالسُّلُوكِ وَبَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِمَا يَسْنَحُ لَهُ، وَيُلْقِيهُ شَيْطَانُهُ فِي قَلْبِهِ: يَزْعُمُ أَنَّ عِلْمَهُ لَدُنِّيٌّ، فَمَلَاحِدَةُ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَزَنَادِقَةُ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّلُوكِ يَقُولُونَ: إِنَّ عِلْمَهُمْ لَّدُنِّيٌّ، وَقَدْ صَنَّفَ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ مُتَهَوِّكُو الْمُتَكَلِّمِينَ، وَزَنَادِقَةُ الْمُتَصَوِّفِينَ، وَجَهَلَةُ الْمُتَفَلْسِفِينَ، وَكُلٌّ يَزْعُمُ أَنَّ عِلْمَهُ لَّدُنِّيٌّ، وَصَدَقُوا وَكَذَبُوا فَإِنَّ اللَّدُنِّيَّ مَنْسُوبٌ إِلَى " لَدُنْ " بِمَعْنَى عِنْدَ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: الْعِلْمُ الْعِنْدِيُّ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِيمَنْ هَذَا الْعِلْمُ مِنْ عِنْدِهِ وَمِنْ لَدُنْهُ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى بِأَبْلَغِ الذَّمِّ مَنْ يَنْسِبُ إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقال تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وقال تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} فَكُلُّ مَنْ قَالَ: هَذَا الْعِلْمُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- وَهُوَ كَاذِبٌ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ- فَلَهُ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ هَذَا الذَّمِّ، وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، يَذُمُّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ أَضَافَ إِلَيْهِ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَمَنْ قَالَ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَلِهَذَا رَتَّبَ سُبْحَانَهُ الْمُحَرَّمَاتِ أَرْبَعَ مَرَاتِبَ، وَجَعَلَ أَشَدَّهَا: الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلَا عِلْمٍ، فَجَعَلَهُ آخِرَ مَرَاتِبِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالٍ، بَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ، وَعَلَى لِسَانِ كُلِّ رَسُولٍ، فَالْقَائِلُ: إِنَّ هَذَا عِلْمٌ لَّدُنِّيٌّ، لِمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا قَامَ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ: كَاذِبٌ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ أَظْلَمِ الظَّالِمِينَ، وَأَكْذَبِ الْكَاذِبِينَ. قَوْلُهُ: " وَأَمَّا جَمْعُ الْوُجُودِ: فَهُوَ تَلَاشِي نِهَايَةِ الِاتِّصَالِ فِي عَيْنِ الْوُجُودِ مَحْقًا ". " تَلَاشِي نِهَايَةِ الِاتِّصَالِ ": هُوَ فَنَاءُ الْعَبْدِ فِي الشُّهُودِ، وَ " نِهَايَةُ الِاتِّصَالِ ": هُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ بَابِ الِاتِّصَالِ " أَنَّهُ لَا يُدْرَكُ مِنْهُ نَعْتٌ وَلَا مِقْدَارٌ إِلَّا اسْمٌ مُعَارٌ، وَلَمْحٌ إِلَيْهِ مُشَارٌ "، فَحَقِيقَةُ الْجَمْعِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: تَلَاشِي ذَلِكَ فِي عَيْنِ الْوُجُودِ، أَيْ فِي حَقِيقَتِهِ، وَيُرِيدُ بِالْوُجُودِ: مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ بَابِ الْوُجُودِ، وَهُوَ قَوْلُهُ " وُجُودُ الْحَقِّ: وُجُودُ عَيْنٍ، مُنْقَطِعًا عَنْ مَسَاغِ الْإِشَارَةِ " فَتَضْمَحِلُّ نِهَايَةُ الِاتِّصَالِ فِي هَذَا الْوُجُودِ مَحْقًا أَيْ ذَوَبَانًا وَفَنَاءً. قَوْلُهُ: " وَأَمَّا جَمْعُ الْعَيْنِ: فَهُوَ تَلَاشِي كُلِّ مَا تُقِلُّهُ الْإِشَارَةُ فِي ذَاتِ الْحَقِّ حَقًّا ". " تُقِلُّهُ الْإِشَارَةُ " أَيْ تَحَمِلُهُ وَتَقُومُ بِهِ وَالْإِشَارَةُ تَارَةً تَكُونُ بِالْيَدِ وَالرَّأْسِ فَتَكُونُ إِيمَاءً، وَتَارَةً تَكُونُ بِالْعَيْنِ فَتَكُونُ رَمْزًا، وَتَارَةً تَكُونُ بِاللَّفْظِ فَيُسَمَّى تَعْرِيضًا، وَتَارَةً تَكُونُ بِالذِّهْنِ وَالْعَقْلِ، فَتَضْمَحِلُّ كُلُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَتَبْطُلُ عِنْدَ شُهُودِ الْعَيْنِ فِي حَضْرَةِ الْجَمْعِ، وَظُهُورِ جَلَالِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ، وَالذَّاتُ: هِيَ الْحَامِلَةُ لِلصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ. فَعَرَفْتَ مِنْ هَذَا: أَنَّهُ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى يَغِيبُ عَنْ جَمِيعِ الْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَدِلَّةِ وَالشَّوَاهِدِ بِالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، وَفِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ: يَغِيبُ عَنِ اتِّصَالِهِ وَشُهُودِ اتِّصَالِهِ بِالْوُجُودِ، فَإِنَّ الْوُجُودَ فَوْقَ الِاتِّصَالِ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَهَذَا كَمَا يَغِيبُ الْوَاجِدُ الَّذِي قَدْ ظَفِرَ بِمَوْجُودِهِ عَنْ شُهُودِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ وَاتِّصَالِهِ بِهِ، فَتُفْنِيهِ عَيْنُ وُجُودِهِ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ وَصِفَاتِهَا، وَفِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ: يَضْمَحِلُّ كُلُّ مَا تَحْمِلُهُ الْإِشَارَةُ- إِلَى ذَاتٍ، أَوْ إِلَى صِفَةٍ، أَوْ حَالٍ، أَوْ مَقَامٍ- فِي ذَاتِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَلَا يَبْقَى هُنَاكَ مَا يُشَارُ إِلَيْهِ سِوَاهُ.
قَوْلُهُ: " وَالْجَمْعُ: غَايَةُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، وَهُوَ طَرَفُ بَحْرِ التَّوْحِيدِ ". وَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ السَّالِكَ مَا دَامَ فِي سُلُوكِهِ فَهُوَ فِي تَفْرِقَةِ الِاسْتِدْلَالِ، وَطَلَبِ الشَّوَاهِدِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى مَقَامِ الْمَعْرِفَةِ، وَصَارَ هَمُّهُ هَمًّا وَاحِدًا- لِلَّهِ، وَفِي اللَّهِ، وَبِاللَّهِ- يَنْزِلُ فِي مَنْزِلَةِ الْجَمْعِ وَيُشَمِّرُ لِرُكُوبِ بَحْرِ التَّوْحِيدِ الَّذِي يَتَلَاشَى فِيهِ كُلُّ مَا سِوَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، فَالْجَمْعُ عِنْدَهُ: نِهَايَةُ سَفَرِ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ. وَهَذَا مَوْضِعٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَقَامِ السَّالِكِينَ: التَّوْبَةُ الَّتِي هِيَ بِدَايَاتُ مَنَازِلِهِمْ. وَلَعَلَّ سَمْعَكَ يَنْفِرُ مِنْ هَذَا غَايَةَ النُّفُورِ، وَتَقُولُ: هَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا مِنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ، وَلَا نَزَلَ فِي مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيُوَافِقُكَ عَلَى هَذَا، وَيَقُولُ: أَيْنَ كُنَّا؟ وَأَيْنَ صِرْنَا؟ نَحْنُ قَدْ قَطَعْنَا مَنْزِلَةَ التَّوْبَةِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مِائَةُ مَقَامٍ، فَنَرْجِعُ مِنْ مِائَةِ مَقَامٍ إِلَيْهَا، وَنَجْعَلُهَا غَايَةَ مَقَامِ السَّالِكِينَ؟ فَاسْمَعِ الْآنَ وَعِهْ، وَلَا تَعْجَلْ بِالْإِنْكَارِ، وَلَا تُبَادِرْ بِالرَّدِّ، وَافْتَحْ ذِهْنَكَ لِمَعْرِفَةِ نَفْسِكَ، وَحُقُوقِ رَبِّكَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْكَ، وَمَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْكَ، ثُمَّ انْسِبْ أَعْمَالَكَ وَأَحْوَالَكَ وَتِلْكَ الْمَنَازِلَ الَّتِي نَزَلْتَهَا وَالْمَقَامَاتِ الَّتِي قُمْتَ فِيهَا- لِلَّهِ وَبِاللَّهِ- إِلَى عَظِيمِ جَلَالِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ وَمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ، فَإِنْ رَأَيْتَهَا وَافِيَةً بِذَلِكَ مُكَافِئَةً لَهُ فَلَا حَاجَةَ حِينَئِذٍ إِلَى التَّوْبَةِ، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهَا رُجُوعٌ عَنِ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ، وَانْحِطَاطٌ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ، وَرُجُوعٌ مِنْ غَايَةٍ إِلَى بِدَايَةٍ، وَمَا ذَلِكَ بِبَعِيدٍ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى هَذَا الشَّأْنِ، الْمَغْرُورِينَ بِأَحْوَالِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ وَإِشَارَاتِهِمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ أَنَّ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا قُمْتَ بِهِ- مِنْ صِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ، وَإِنَابَةٍ، وَتَوَكُّلٍ، وَزُهْدٍ وَعِبَادَةٍ- لَا يَفِي بِأَيْسَرِ حَقٍّ لَهُ عَلَيْكَ، وَلَا يُكَافِئُ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِهِ عِنْدَكَ، وَأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ- لِجَلَالَتِهِ وَعَظْمَتِهِ- أَعْظَمُ وَأَجَلُّ وَأَكْبَرُ مِمَّا يَقُومُ بِهِ الْخَلْقُ. فَاعْلَمِ الْآنَ: أَنَّ التَّوْبَةَ نِهَايَةُ كُلِّ عَارِفٍ، وَغَايَةُ كُلِّ سَالِكٍ، وَكَمَا أَنَّهَا بِدَايَةٌ فَهِيَ نِهَايَةٌ، وَالْحَاجَةُ إِلَيْهَا فِي النِّهَايَةِ أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الْبِدَايَةِ، بَلْ هِيَ فِي النِّهَايَةِ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ. فَاسْمَعِ الْآنَ مَا خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ عِنْدَ النِّهَايَةِ، وَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي آخِرِ حَيَاتِهِ أَشَدَّ مَا كَانَ اسْتِغْفَارًا وَأَكْثَرَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وَهَذَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَهِيَ آخِرُ الْغَزَوَاتِ الَّتِي غَزَاهَا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ شُكْرَانًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ الْجِهَادُ، وَقَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ مَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا صَلَّى صَلَاةً- بَعْدَ مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ- إِلَّا قَالَ فِيهَا: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَذَلِكَ فِي نِهَايَةِ أَمْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا فَهِمَ مِنْهَا عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ- كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: أَنَّ أَجَلَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَعْلَمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَأَمَرَهُ سُبْحَانَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي نِهَايَةِ أَحْوَالِهِ، وَآخِرِ أَمْرِهِ، عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَقَامًا وَحَالًا، وَآخِرُ مَا سُمِعَ مِنْ كَلَامِهِ عِنْدَ قُدُومِهِ عَلَى رَبِّهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى وَكَانَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْتِمُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ بِالِاسْتِغْفَارِ، كَالصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، فَإِنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْهُ، وَأَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: آيِبُونَ، تَائِبُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ وَشَرَّعَ أَنْ يُخْتَمَ الْمَجْلِسُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَإِنْ كَانَ مَجْلِسَ خَيْرٍ وَطَاعَةٍ، وَشَرَّعَ أَنْ يَخْتِمَ الْعَبْدُ عَمَلَ يَوْمِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ، فَيَقُولُ عِنْدَ النَّوْمِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَنْ يَنَامَ عَلَى سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ. وَالْعَارِفُ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَحُقُوقِهِ يَعْلَمُ أَنَّ الْعَبْدَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَى التَّوْبَةِ فِي نِهَايَتِهِ، وَأَنَّهُ أَحْوَجُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَالِاتِّصَالِ، وَجَمْعِ الشَّوَاهِدِ، وَجَمْعِ الْوُجُودِ، وَجَمْعِ الْعَيْنِ، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ أَعْلَى مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، وَغَايَةُ مَطْلَبِ الْمُقَرَّبِينَ، وَلَمْ يَأْتِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا النَّادِرُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَتَصَوَّرُهُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا بِصُعُوبَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَلَوْ سَمِعَهُ أَكْثَرُ الْخَلْقِ لَمَا فَهِمُوهُ، وَلَا عَرَفُوا الْمُرَادَ مِنْهُ إِلَّا بِتَرْجَمَةٍ؟ فَأَيْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَوْ كَلَامِ الصَّحَابَةِ- الَّذِينَ نِسْبَةُ مَعَارِفِ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى مَعَارِفِهِمْ كَنِسْبَةِ فَضْلِهِمْ وَدِينِهِمْ وَجِهَادِهِمْ إِلَيْهِمْ- مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ؟ فَصَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ- أَرْبَابَ هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ الْحَادِثَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ، وَالْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ-: أَعْرَفَ بِمَقَامَاتِ السَّالِكِينَ وَمَنَازِلِ السَّائِرِينَ، وَغَايَاتِهَا مِنْ أَعْلَمِ الْخَلْقِ بِاللَّهِ بَعْدَ رُسُلِهِ؟! هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ. وَهَؤُلَاءِ فِي بَابِ الْإِرَادَةِ وَالطَّلَبِ وَالسُّلُوكِ نَظِيرُ أَرْبَابِ الْكَلَامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ فِي بَابِ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَالطَّائِفَتَانِ- بَلْ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْفِقْهِ- مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَشَدَّ التَّكَلُّفِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ الْحَيَّ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ. فَلَا تَجِدُ هَذَا التَّكْلِيفَ الشَّدِيدَ، وَالتَّعْقِيدَ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي عِنْدَ الصَّحَابَةِ أَصْلًا. وَإِنَّمَا يُوجَدُ عِنْدَ مَنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ، وَإِذَا تَأَمَّلَهُ الْعَارِفُ وَجَدَهُ كَلَحْمِ جَمَلٍ غَثٍّ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لَا سَهْلَ فَيَرْتَقِي، وَلَا سَمِينَ فَيَنْتَقِلُ، فَيُطَوِّلُ عَلَيْكَ الطَّرِيقَ، وَيُوَسِّعُ لَكَ الْعِبَارَةَ، وَيَأْتِي بِكُلِّ لَفْظٍ غَرِيبٍ وَمَعْنًى أَغْرَبَ مِنَ اللَّفْظِ، فَإِذَا وَصَلْتَ لَمْ تَجِدْ مَعَكَ حَاصِلًا طَائِلًا، وَلَكِنْ تَسْمَعُ جَعْجَعَةً وَلَا تَرَى طَحْنًا، فَالْمُتَكَلِّمُونَ فِي جَعَاجِعِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَكْوَانِ وَالْأَلْوَانِ، وَالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، وَالْأَحْوَالِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَالْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالِانْحِيَازِ، وَالْجِهَاتِ وَالنِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ، وَالْغَيْرَيْنِ وَالْخِلَافَيْنِ، وَالضِّدَّيْنِ وَالنَّقِيضَيْنِ، وَالتَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ، وَالْعَرَضُ هَلْ يَبْقَى زَمَانَيْنِ؟ وَمَا هُوَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ؟ وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَلَمْ يَعْرِفِ الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ، وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفِ الْوُجُودَ: هَلْ هُوَ مَاهِيَّةُ الشَّيْءِ، أَوْ زَائِدٌ عَلَيْهَا؟ وَيَعْتَرِفُ: أَنَّهُ شَاكٌّ فِي وُجُودِ الرَّبِّ: هَلْ هُوَ وُجُودٌ مَحْضٌ، أَوْ وُجُودٌ مُقَارِنٌ لِلْمَاهِيَّةِ؟ وَيَقُولُ: الْحَقُّ عِنْدِي الْوَقْفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَيَقُولُ أَفْضَلُهُمْ- عِنْدَ نَفْسِهِ- عِنْدَ الْمَوْتِ: أَخْرُجُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَرَفْتُ إِلَّا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ أَنَّ الْمُمْكِنَ يَفْتَقِرُ إِلَى وَاجِبٍ، ثُمَّ قَالَ: الِافْتِقَارُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ، فَأَمُوتُ وَلَمْ أَعْرِفْ شَيْئًا، وَهَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: أَكْثَرُ النَّاسِ شَكًّا عِنْدَ الْمَوْتِ: أَرْبَابُ الْكَلَامِ. وَآخَرُونَ أَعْظَمُ تَكَلُّفًا مِنْ هَؤُلَاءِ، وَأَبْعَدُ شَيْءٍ عَنِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَهُمْ: أَرْبَابُ الْهَيُولِي وَالصُّورَةِ وَالْأَسْطُقُّصَّاتِ، وَالْأَرْكَانِ وَالْعِلَلِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْمُفَارَقَاتِ، وَالْمُجَرَّدَاتِ، وَالْمَقُولَاتِ الْعَشْرِ، وَالْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ، وَالْمُخْتَلِطَاتِ وَالْمُوَجَّهَاتِ، وَالْقَضَايَا الْمُسَوَّرَاتِ، وَالْقَضَايَا الْمُهْمَلَاتِ، فَهُمْ أَعْظَمُ الطَّوَائِفِ تَكَلُّفًا، وَأَقَلُّهُمْ تَحْصِيلًا لِلْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّفُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِرَادَةِ وَالسُّلُوكِ، وَأَرْبَابِ الْحَالِ وَالْمَقَامِ، وَالْوَقْتِ وَالْمَكَانِ، وَالْبَادِيِ وَالْبَاذِهِ وَالْوَارِدِ، وَالْخَاطِرِ وَالْوَاقِعِ وَالْقَادِحِ وَاللَّامِعِ، وَالْغَيْبَةِ وَالْحُضُورِ، وَالْمُحِقِّ وَالْحَقِّ، وَالسُّكْرِ، وَاللَّوَائِحِ وَالطَّوَالِعِ، وَالْعَطَشِ وَالدَّهَشِ، وَالتَّلْبِيسِ، وَالتَّمْكِينِ وَالتَّلْوِينِ، وَالِاسْمِ وَالرَّسْمِ، وَالْجَمْعِ وَجَمْعِ الْجَمْعِ، وَجَمْعِ الشَّوَاهِدِ وَجَمْعِ الْوُجُودِ، وَالْأَثَرِ، وَالْكَوْنِ، وَالْبَوْنِ، وَالِاتِّصَالِ وَالِانْفِصَالِ، وَالْمُسَامَرَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَالْمُعَايَنَةِ، وَالتَّجَلِّي، وَالتَّخَلِّي، وَأَنَا بِلَا أَنَا، وَأَنْتَ بِلَا أَنْتَ، وَنَحْنُ بِلَا نَحْنُ، وَهُوَ بِلَا هُوَ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى تَكَلُّفِ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفِ وَتَنَطُّعِهِمْ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفِقْهِ لَهُمْ مِثْلُ هَذَا التَّكَلُّفِ وَأَعْظَمُ مِنْهُ. فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مَحْجُوبُونَ بِمَا لَدَيْهِمْ، مَوْقُوفُونَ عَلَى مَا عِنْدَهُمْ، خَاضُوا- بِزَعْمِهِمْ- بِحَارَ الْعِلْمِ، وَمَا ابْتَلَّتْ أَقْدَامُهُمْ، وَكَدُّوا أَفْكَارَهُمْ وَأَذْهَانَهُمْ وَخَوَاطِرَهُمْ، وَمَا اسْتَنَارَتْ بِالْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنِ الرُّسُلِ قُلُوبُهُمْ وَأَفْهَامُهُمْ، فَرِحِينَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعُلُومِ رَاضِينَ بِمَا قُيِّدُوا بِهِ مِنَ الرُّسُومِ، فَهُمْ فِي وَادٍ وَرَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي وَادٍ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّا لَمْ نَتَجَاوَزْ فِيهِمُ الْقَوْلَ، بَلْ قَصَرْنَا فِيمَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَقُولَهُ، فَذَكَرْنَا غَيْضًا مِنْ فَيْضٍ، وَقَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ. وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ الرَّأْيِ، الَّذِي اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى ذَمِّهِ وَذَمِّ أَهْلِهِ. فَهُمْ أَهْلُ الرَّأْيِ حَقًّا، الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا، وَقَالَ أَيْضًا: أَصْحَابُ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْوُوهَا، فَاشْتَغَلُوا عَنْهَا بِالرَّأْيِ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي؟ وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي؟ إِنْ قَلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي، أَوْ بِمَا لَا أَعْلَمُ، وَقَالَ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الرَّأْيَ كَانَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُصِيبًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ يُرِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَّا الظَّنُّ وَالتَّكَلُّفُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ عَلَى مَا هُوَ مِنْهُ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى الدِّينِ، فَقَدْ رَأَيْتُنِي، وَإِنِّي لَأَرُدُّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِرَأْيِي، أَجْتَهِدُ، وَاللَّهِ مَا آلُو ذَلِكَ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَالْكِتَابُ يُكْتَبُ، فَقَالُوا: تَكْتُبُ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَيْتُ، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، تَرَانِي قَدْ رَضِيتُ وَتَأْبَى؟ وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسَدِّدٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عَتِيقٍ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: أَلَا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، أَلَا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، أَلَا هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ وَالْمَعَانِي الَّتِي نَجِدُهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ تَنَطُّعًا فَلَيْسَ لِلتَّنَطُّعِ حَقِيقَةٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
فَإِنْ لَمْ يَسْمَحْ قَلْبُكَ بِكَوْنِ التَّوْبَةِ غَايَةَ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، وَلَمْ تُصْغِ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَأَبَيْتَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَلَاشِي نِهَايَةِ الِاتِّصَالِ فِي عَيْنِ الْوُجُودِ مَحْقًا، وَتَلَاشِي عُلُومِ الشَّوَاهِدِ فِي الْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ صَرْفًا، وَجَمْعُ الْوُجُودِ وَجَمْعُ الْعَيْنِ: هُوَ نِهَايَةُ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ، بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ سَالِكٍ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ بِمُجَرَّدٍ لَا يُعْطِي عُبُودِيَّةً وَلَا إِيمَانًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ غَايَةَ كُلِّ نَبِيٍّ وَوَلِيٍّ وَعَارِفٍ، فَإِنَّ هَذَا الْجَمْعَ يَحْصُلُ لِلصِّدِّيقِ وَالزِّنْدِيقِ، وَلِلْمَلَاحِدَةِ وَالِاتِّحَادِيَّةِ مِنْهُ حَظٌّ كَبِيرٌ، وَحَوْلَهُ يُدَنْدِنُونَ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ نِهَايَةُ التَّحْقِيقِ، فَأَيْنَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْقِيَامُ بِأَعْبَائِهَا، وَاحْتِمَالُ فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَأَدَائِهَا، وَالْجِهَادُ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَحَمُّلُ الْأَذَى فِي اللَّهِ فِي هَذَا الْجَمْعِ؟! وَأَيْنَ مَعْرِفَةُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فِيهِ مُفَصَّلًا؟ وَأَيْنَ مَعْرِفَةُ مَا يُحِبُّهُ الرَّبُّ تَعَالَى، وَيَكْرَهُهُ مُفَصَّلًا؟ وَأَيْنَ مَعْرِفَةُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ وَشَرِّ الشَّرَّيْنِ فِيهِ؟ وَأَيْنَ الْعِلْمُ بِمَرَاتِبِ الْعُبُودِيَّةِ وَمَنَازِلِهَا فِيهِ؟!. فَالْحَقُّ أَنَّ نِهَايَةَ السَّالِكِينَ تَكْمِيلُ مَرْتَبَةِ الْعُبُودِيَّةِ صَرْفًا، وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ لِبَنِي الطَّبِيعَةِ، وَإِنَّمَا خُصَّ بِذَلِكَ الْخَلِيلَانِ- عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْخَلْقِ، أَمَّا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ وَفَّى، وَأَمَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- فَإِنَّهُ كَمَّلَ مَرْتَبَةَ الْعُبُودِيَّةِ، فَاسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ عَلَى سَائِرِ الْخَلَائِقِ، فَكَانَ صَاحِبَ الْوَسِيلَةِ وَالشَّفَاعَةِ الَّتِي يَتَأَخَّرُ عَنْهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ، وَيَقُولُ هُوَ: أَنَا لَهَا، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْعُبُودِيَّةِ فِي أَعْلَى مَقَامَاتِهِ، وَأَشْرَفِ أَحْوَالِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} وَلِهَذَا يَقُولُ الْمَسِيحُ، حِينَ يُرْغَبُ إِلَيْهِ فِي الشَّفَاعَةِ: اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، عَبْدٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَاسْتَحَقَّ تِلْكَ الرُّتْبَةَ الْعُلْيَا بِتَكْمِيلِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ، وَبِكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ. فَرَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ غَايَةَ الْمَقَامَاتِ وَنِهَايَتَهَا: هُوَ التَّوْبَةُ وَالْعُبُودِيَّةُ الْمَحْضَةُ، لَا جَمْعُ الْعَيْنِ، وَلَا جَمْعُ الْوُجُودِ، وَلَا تَلَاشِي الِاتِّصَالِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَهَذَا الْجَمْعُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ قَامَ بِحَقِيقَةِ التَّوْبَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ. قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْجَمْعُ الَّذِي يَحْصُلُ لِمَنْ قَامَ بِذَلِكَ: هُوَ جَمْعُ الرُّسُلِ وَخُلَفَائِهِمْ، وَهُوَ جَمْعُ الْهِمَّةِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ؛ مَحَبَّةً وَإِنَابَةً وَتَوَكُّلًا، وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَمُرَاقَبَةً، وَجَمْعُ الْهِمَّةِ عَلَى تَنْفِيذِ أَوَامِرِ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ دَعْوَةً وَجِهَادًا، فَهُمَا جَمْعَانِ: جَمْعُ الْقَلْبِ عَلَى الْمَعْبُودِ وَحْدَهُ، وَجَمْعُ الْهَمِّ لَهُ عَلَى مَحْضِ عُبُودِيَّتِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَأَيْنَ شَاهِدُ هَذَيْنِ الْجَمْعَيْنِ؟ قُلْتُ: فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، فَخُذْهُ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَتَأَمَّلْ مَا فِي قَوْلِهِ " إِيَّاكَ ": التَّخْصِيصُ لِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ، وَمَا فِي قَوْلِهِ: " نَعْبُدُ " الَّذِي هُوَ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَلِلْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مِنِ اسْتِيفَاءِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، حَالًا وَاسْتِقْبَالًا، قَوْلًا وَعَمَلًا، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَى ذَلِكَ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الطَّرِيقُ كُلُّهَا فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الطَّرِيقُ فِي: إِيَّاكَ أُرِيدُ بِمَا تُرِيدُ، فَجَمَعَ الْمُرَادَ فِي وَاحِدٍ، وَالْإِرَادَةَ فِي مُرَادِهِ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، فَإِلَى هَذَا دَعَتِ الرُّسُلُ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَإِلَيْهِ شَخَصَ الْعَامِلُونَ، وَتَوَجَّهَ الْمُتَوَجِّهُونَ، وَكُلُّ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ- مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا- مُنْدَرِجَةٌ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ، وَمِنْ ثَمَرَاتِهِ وَمُوجِبَاتِهِ. فَالْعُبُودِيَّةُ تَجْمَعُ كَمَالَ الْحُبِّ فِي كَمَالِ الذُّلِّ، وَكَمَالَ الِانْقِيَادِ لِمَرَاضِي الْمَحْبُوبِ وَأَوَامِرِهِ، فَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لَيْسَ فَوْقَهَا غَايَةٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَى الْقِيَامِ بِحَقِيقَتِهَا- كَمَا يَجِبُ- سَبِيلٌ، فَالتَّوْبَةُ هِيَ الْمِعْوَلُ وَالْآخِيَّةُ، وَقَدْ عَرَفْتَ- بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ- أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَيْهَا فِي النِّهَايَةِ أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فِي الْبِدَايَةِ، وَلَوْلَا تَنَسُّمُ رُوحِهَا لَحَالَ الْيَأْسُ بَيْنَ ابْنِ الْمَاءِ وَالطِّينِ وَبَيْنَ الْوُصُولِ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا لَوْ قَامَ بِمَا يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ لِسَيِّدِهِ مِنْ حُقُوقِهِ، فَكَيْفَ وَالْغَفْلَةُ وَالتَّقْصِيرُ وَالتَّفْرِيطُ وَالتَّهَاوُنُ، وَإِيثَارُ حُظُوظِهِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ عَلَى حُقُوقِ رَبِّهِ لَا يَكَادُ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا، وَلَاسِيَّمَا السَّالِكُ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ وَالْجَمْعِ؟ لِأَنَّ رَبَّهُ يُطَالِبُهُ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَنَفْسُهُ تُطَالِبُهُ بِالْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ، وَلَوْ حَقَّقَ النَّظَرَ مَعَ نَفْسِهِ وَحَاسَبَهَا حِسَابًا صَحِيحًا لَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ حَظَّهُ يُرِيدُ، وَلَذَّتَهُ يَطْلُبُ، نَعَمْ كُلُّ أَحَدٍ يَطْلُبُ ذَلِكَ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ صَارَ حَظُّهُ نَفْسَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَمَحَابِّهِ، أَحَبَّتْ ذَلِكَ نَفْسُهُ أَوْ كَرِهَتْهُ، وَبَيْنَ مَنْ حَظُّهُ مَا يُرِيدُ مِنْ رَبِّهِ، فَالْأَوَّلُ: حَظُّهُ مُرَادُ رَبِّهِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ مِنْهُ، وَهَذَا حَظُّهُ مُرَادُهُ مِنْ رَبِّهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْبَابُ مُسَلَّمٌ لِأَهْلِ الذَّوْقِ، وَأَنْتُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِلِسَانِ الْعِلْمِ لَا بِلِسَانِ الذَّوْقِ، وَالذَّائِقُ وَاجِدٌ، وَالْوَاجِدُ لَا يُمْكِنُهُ إِنْكَارُ مَوْجُودِهِ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِ الْعِلْمِ، بَلْ يَدْعُوهُ إِلَى ذَوْقِ مَا ذَاقَهُ، وَيَقُولُ: أَقُولُ لِلَّائِمِ الْمُهْدِي مَلَامَــتَهُ *** ذُقِ الْهَوَى وَإِنِ اسْطَعْــتَ الْمَلَامَ لُمْ قِيلَ: لَمْ يُنْصِفْ مَنْ أَحَالَ عَلَى الذَّوْقِ، فَإِنَّهَا حِوَالَةٌ عَلَى مَحْكُومٍ عَلَيْهِ لَا عَلَى حَاكِمٍ، وَعَلَى مَشْهُودٍ لَهُ، لَا عَلَى شَاهِدٍ، وَعَلَى مَوْزُونٍ، لَا عَلَى مِيزَانٍ. وَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ! هَلْ يَدُلُّ مُجَرَّدُ ذَوْقِ الشَّيْءِ عَلَى حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ؟ وَهَلْ جَعَلَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْأَذْوَاقَ وَالْمَوَاجِيدَ حُجَجًا وَأَدِلَّةً، يُمَيَّزُ بِهَا بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَبَيْنَ مَا يَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ؟ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ: لَاحْتَجَّ كُلُّ مُبْطِلٍ عَلَى بَاطِلِهِ بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ، كَمَا تَجِدُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْإِلْحَادِ، فَهَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ- وَهُمْ أَكْفَرُ الْخَلْقِ- يَحْتَجُّونَ بِالذَّوْقِ وَالْوَجْدِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِلْحَادِهِمْ حَتَّى لَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: يَا صَاحِبِي أَنْتَ تَنْهَانِي وَتَأْمُــرُنِـي *** وَالْوَجْدُ أَصْدَقُ نَهَّـــاءٍ وَأَمَّـارِ فَإِنْ أُطِعْكَ وَأَعْصِ الْوَجْدَ رُحْتُ عَـمٍ *** عَنِ الْيَقِــينِ إِلَى أَوْهَامِ أَخْبَــارِ وَعَيْنُ مَا أَنْتَ تَدْعُونِـي إِلَــيْهِ إِذَا *** حَقَّقْــتُهُ بَدَّلَ الْمَنْهِـيَّ يَـا جَارِ وَيَقُولُ هَذَا الْقَائِلُ: ثَبَتَ عِنْدَنَا- بِالْكَشْفِ وَالذَّوْقِ- مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعَقْلِ، وَكُلُّ مُعْتَقِدٍ لِأَمْرٍ جَازِمٍ بِهِ، مُسْتَحْسِنٌ لَهُ: يَذُوقُ طَعْمَهُ، فَالْمُلْحِدُ يَذُوقُ طَعْمَ الِاتِّحَادِ وَالِانْحِلَالِ مِنَ الدِّينِ، وَالرَّافِضِيُّ يَذُوقُ طَعْمَ الرَّفْضِ، وَمُعَادَاةِ خِيَارِ الْخَلْقِ، وَالْقَدَرِيُّ يَذُوقُ طَعْمَ إِنْكَارِ الْقَدَرِ، وَيَعْجَبُ مِمَّنْ يُثْبِتُهُ، وَالْجَبْرِيُّ عَكْسُهُ، وَالْمُشْرِكُ يَذُوقُ طَعْمَ الشِّرْكِ، حَتَّى إِنَّهُ لِيَسْتَبْشِرُ إِذَا ذُكِرَ إِلَهُهُ وَمَعْبُودُهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيَشْمَئِزُّ قَلْبُهُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ. وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ قَدْ سَلَكَهُ أَرْبَابُ السَّمَاعِ الْمُحْدَثِ الشَّيْطَانِيِّ، الَّذِي هُوَ مَحْضُ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا، وَاحْتَجُّوا عَلَى إِبَاحَةِ هَذَا السَّمَاعِ بِمَا فِيهِ مِنَ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ وَاللَّذَّةِ، وَأَنْتَ تَجِدُ النَّصْرَانِيَّ لَهُ فِي تَثْلِيثِهِ ذَوْقٌ، وَوَجْدٌ وَحَنِينٌ، بِحَيْثُ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ أَشَدُّ الْعَذَابِ لَاخْتَارَهُ، دُونَ أَنْ يُفَارِقَ تَثْلِيثَهُ، لِمَا لَهُ فِيهِ مِنَ الذَّوْقِ. وَحِينَئِذٍ، فَيُقَالُ: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا تَقُولُ، وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الْمُنْكِرَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِ الذَّوْقِ، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ذَوْقُ الذَّائِقِ لِذَلِكَ حُجَّةً صَحِيحَةً نَافِعَةً لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ؟ وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ هَذَا الْمُنْكِرَ قَالَ: نَعَمْ، أَنَا مَحْجُوبٌ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى مَا أَنْكَرْتُهُ، غَيْرُ ذَائِقٍ لَهُ، وَأَنْتَ ذَائِقٌ وَاصِلٌ، فَمَا عَلَامَةُ مَا ذُقْتَهُ، وَوَصَلْتَ إِلَيْهِ؟ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟ وَأَنَا لَا أُنْكِرُ ذَوْقَكَ لَهُ وَوَجْدَكَ بِهِ، وَلَكِنَّ الشَّأْنَ فِي الْمَذُوقِ لَا فِي الذَّوْقِ، وَإِذَا ذَاقَ الْمُحِبُّ الْعَاشِقُ طَعْمَ مَحَبَّتِهِ وَعِشْقِهِ لِمَحْبُوبِهِ، مَا كَانَ غَايَةَ ذَلِكَ: إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى وُجُودِ مَحَبَّتِهِ وَعِشْقِهِ، لَا عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ نَافِعًا لَهُ أَوْ ضَارًّا، أَوْ مُوجِبًا لِكَمَالِهِ أَوْ نَقْصِهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:(بَابُ التَّوْحِيدِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} التَّوْحِيدُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْحَدَثِ، وَإِنَّمَا نَطَقَ الْعُلَمَاءُ بِمَا نَطَقُوا بِهِ، وَأَشَارَ الْمُحَقِّقُونَ بِمَا أَشَارُوا بِهِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ: لِقَصْدِ تَصْحِيحِ التَّوْحِيدِ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ حَالٍ أَوْ مَقَامٍ؛ فَكُلُّهُ مَصْحُوبٌ بِالْعِلَلِ. قُلْتُ: التَّوْحِيدُ أَوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَأَوَّلُ مَنَازِلِ الطَّرِيقِ، وَأَوَّلُ مَقَامٍ يَقُومُ فِيهِ السَّالِكُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال هُودٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال صَالِحٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال شُعَيْبٌ لِقَوْمِهِ: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. فَالتَّوْحِيدُ: مِفْتَاحُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِرَسُولِهِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَقَدْ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ- إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ: أَنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، لَا النَّظَرُ، وَلَا الْقَصْدُ إِلَى النَّظَرِ، وَلَا الشَّكُّ- كَمَا هِيَ أَقْوَالٌ لِأَرْبَابِ الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ. فَالتَّوْحِيدُ: أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، وَآخِرُ مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَهُوَ أَوَّلُ وَاجِبٍ، وَآخِرُ وَاجِبٍ، فَالتَّوْحِيدُ: أَوَّلُ الْأَمْرِ وَآخِرُهُ. قَوْلُهُ: " التَّوْحِيدُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنِ الْحَـدَثِ "، هَذَا الْحَدُّ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، وَيَنْجُو بِهِ الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ، وَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَيَخْرُجُ مِنَ الشِّرْكِ، فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْفِرَقِ، وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ بِوُجُودِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ أَقَرَّ بِهِ، فَعُبَّادُ الْأَصْنَامِ، وَالْمَجُوسُ، وَالنَّصَارَى، وَالْيَهُودُ، وَالْمُشْرِكُونَ- عَلَى اخْتِلَافِ نِحَلِهِمْ- كُلُّهُمْ يُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنِ الْحَدَثِ، وَيُثْبِتُونَ قِدَمَهُ، حَتَّى أَعْظَمُ الطَّوَائِفِ عَلَى الْإِطْلَاقِ شِرْكًا، وَكُفْرًا وَإِلْحَادًا، وَهُمْ طَائِفَةُ الِاتِّحَادِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَدَثِ، وَلَمْ تَزَلِ الْمُحْدَثَاتُ تَكْتَسِي وُجُودَهُ، تَلْبَسُهُ وَتَخْلَعُهُ. وَالْفَلَاسِفَةُ- الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنِ الشَّرَائِعِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ- يُثْبِتُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ قَدِيمًا مُنَزَّهًا عَنِ الْحَدَثِ. وَالْمُشْرِكُونَ- عُبَّادُ الْأَصْنَامِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَعَـهُ آلِـهَةً أُخْرَى- يُثْبِتُونَ قَدِيمًا مُنَزَّهًا عَنِ الْحَـدَثِ. فَالتَّنْزِيهُ عَنِ الْحَدَثِ حَقٌّ، وَلَكِنْ لَا يُعْطِي إِسْلَامًا وَلَا إِيمَانًا، وَلَا يُدْخِلُ فِي شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَا يُخْرِجُ مِنْ نِحَلِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَمِلَلِهِمُ الْبَتَّةَ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَخْفَى عَلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ، وَمَحَلُّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ مَحَلُّهُ. وَمَعَ هَذَا فَقَدْ سُئِلَ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدُ عَنِ التَّوْحِيدِ؟ فَقَالَ: هُوَ إِفْرَادُ الْقَدِيمِ عَنِ الْمُحْدَثِ، وَ الْجُنَيْدُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا تَصِحُّ دَعْوَى التَّوْحِيدِ، وَلَا مَقَامُهُ وَلَا حَالُهُ، وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُوَحِّدًا إِلَّا إِذَا أَفْرَدَ الْقَدِيمَ عَنِ الْمُحْدَثِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنِ ادَّعَى التَّوْحِيدَ لَمْ يُفْرِدْهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ مَنْ نَفَى مُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَجَعَلَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ، لَمْ يُفْرِدْهُ عَنِ الْمُحْدَثِ، بَلْ جَعَلَهُ حَالًّا فِي الْمُحْدَثَاتِ مُخَالِفًا لَهَا، مَوْجُودًا فِيهَا بِذَاتِهِ، وَصُوفِيَّةُ هَؤُلَاءِ وَعُبَّادُهُمْ هُمُ الْحُلُولِيَّةُ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- يَحِلُّ بِذَاتِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُمْ طَائِفَتَانِ: طَائِفَةٌ تُعَمِّمُ الْمَوْجُودَاتِ بِحُلُولِهِ فِيهَا، وَطَائِفَةٌ تَخُصُّ بِهِ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ. قَالَ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ: هَذِهِ حِكَايَةُ قَوْلِ قَوْمٍ مِنَ النُّسَّاكِ، وَفِي الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَنْتَحِلُونَ النَّسْكَ، يَـزْعُمُونَ أَنَّهُ جَائِزٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْحُلُولُ فِي الْأَجْسَامِ، وَإِذَا رَأَوْا شَيْئًا يَسْتَحْسِنُونَهُ قَالُوا: لَا نَدْرِي! لَعَلَّهُ رَبُّنَا. قُلْتُ: وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ طَائِفَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: تَزْعُمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَحِلُّ فِي الصُّورَةِ الْجَمِيلَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، وَالثَّانِيَةُ: تَزْعُمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَحِلُّ فِي الْكُمَّلِ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الَّذِينَ تَجَرَّدَتْ نُفُوسُهُمْ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَاتَّصَفُوا بِالْفَضَائِلِ، وَتَنَزَّهُوا عَنِ الرَّذَائِلِ، وَالنَّصَارَى تَزْعُمُ أَنَّهُ حَلَّ فِي بَدَنِ الْمَسِيحِ وَتَدَرَّعَ بِهِ، وَالِاتِّحَادِيَّةُ تَزْعُمُ أَنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ اكْتَسَتْهُ الْمَاهِيَّاتُ، فَهُوَ عَيْنُ وُجُودِهَا. فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَمْ يُفْرِدُوا الْقَدِيمَ عَنِ الْمُحْدَثِ.
وَهَذَا الْإِفْرَادُ- الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْجُنَيْدُ إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعُبُودِيَّةِ كَمَا رَآهُ الْجُنَيْدُ- نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: إِفْرَادٌ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْخَبَرِ النَّوْعُ الْأَوَّلِ مِنْ إِفْرَادِ الْعُبُودِيَّةِ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ أَيْضًا، أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ مُبَايَنَةِ الرَّبِّ تَعَالَى لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَعَلُوِّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا، وَأَخْبَرَتْ بِهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَالثَّانِي: إِفْرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ، وَإِثْبَاتُهَا لَهُ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ، كَمَا أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ، وَأَثْبَتَهَا لَهُ رُسُلُهُ، مُنَزَّهَةً عَنِ التَّعْطِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالتَّمْثِيلِ، وَالتَّكْيِيفِ وَالتَّشْبِيهِ، بَلْ تُثْبِتُ لَهُ سُبْحَانَهُ حَقَائِقَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَنْفِي عَنْهُ فِيهَا مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ، إِثْبَاتًا بِلَا تَمْثِيلٍ، وَتَنْزِيهًا بِلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. وَفِي هَذَا النَّوْعِ يَكُونُ إِفْرَادُهُ سُبْحَانَهُ بِعُمُومِ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ- أَعْيَانِهَا وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا- وَأَنَّهَا كُلَّهَا وَاقِعَةٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَيُبَايِنُ صَاحِبُ هَذَا الْإِفْرَادِ سَائِرَ فِرَقِ أَهْلِ الْبَاطِلِ: مِنَ الِاتِّحَادِيَّةِ، وَالْحُلُولِيَّةِ، وَالْجَهْمِيَّةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ- الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ رَبٌّ يُعْبَدُ، وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إِلَهٌ يُصَلَّى لَهُ وَيُسْجَدُ- وَالْقَدَرِيَّةِ- الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ، مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَلَا عَلَى أَفْعَالِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ- بَلْ يَقَعُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ، وَيُرِيدُ مَا لَا يَكُونُ، فَيُرِيدُ شَيْئًا لَا يَكُونُ، وَيَكُونُ شَيْءٌ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْإِفْرَادِ: إِفْرَادُ الْقَدِيمِ عَنِ الْمُحَدَثِ بِالْعِبَادَةِ- مِنَ التَّأَلُّهِ، وَالْحُبِّ، وَالْخَوْفِ، وَالرَّجَاءِ وَالتَّعْظِيمِ، وَالْإِنَابَةِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالِاسْتِعَانَةِ وَابْتِغَاءِ الْوَسِيلَةِ إِلَيْهِ فَهَذَا الْإِفْرَادُ، وَذَلِكَ الْإِفْرَادُ: بِهِمَا بُعِثَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَشُرِّعَتِ الشَّرَائِعُ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَقَامَ سُوقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَتَفْرِيدُ الْقَدِيمِ سُبْحَانَهُ عَنِ الْمُحْدَثِ: فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ،- وَفِي إِرَادَتِهِ، وَحْدَهُ وَمَحَبَّتِهِ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِعَانَةِ وَالْحَلِفِ بِهِ، وَالنَّذْرِ لَهُ، وَالتَّوْبَةِ إِلَيْهِ، وَالسُّجُودِ لَهُ، وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ عِبَارَةُ الْجُنَيْدِ عَنِ التَّوْحِيدِ عِبَارَةً سَادَّةً مُسَدَّدَةً. فَشَيْخُ الْإِسْلَامِ: إِنْ أَرَادَ مَا أَرَادَ أَبُو الْقَاسِمِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُنَزِّهَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَنْ قِيَامِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِهِ- الَّتِي يُسَمِّيهَا نُفَاةُ أَفْعَالِهِ: حُلُولَ الْحَوَادِثِ- وَيَجْعَلُونَ تَنْزِيهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْهَا مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيدِ، بَلْ هُوَ أَصْلُ التَّوْحِيدِ عِنْدَهُمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: التَّوْحِيدُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ حُلُولِ الْحَوَادِثِ. وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ: أَنَّ التَّوْحِيدَ- عِنْدَهُمْ- تَعْطِيلُهُ عَنْ أَفْعَالِهِ وَنَفْيُهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا الْبَتَّةَ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ فَاعِلٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ يَقُومُ بِهِ الْبَتَّةَ مُحَالٌ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ وَلُغَاتِ الْأُمَمِ، وَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ سُبْحَانَهُ رَبًّا لِلْعَالَمِ مَعَ نَفْيِ ذَلِكَ أَبَدًا، فَإِنَّ قِيَامَ الْأَفْعَالِ بِهِ هُوَ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَحَقِيقَتُهَا، وَنَافِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَافٍ لِأَصْلِ الرُّبُوبِيَّةِ، جَاحِدٌ لَهَا رَأْسًا. وَإِنْ أَرَادَ تَنْزِيهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثِينَ، وَخَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُ تَقْصِيرٌ فِي التَّعْبِيرِ عَنِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ إِثْبَاتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَصْلُ التَّوْحِيدِ، وَمِنْ تَمَامِ هَذَا الْإِثْبَاتِ: تَنْزِيهُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ سِمَاتِ الْمُحْدَثِينَ، وَخَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ، وَقَدِ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ الِاتِّحَادِيُّ فِي هَذَا الْحَدِّ، فَقَالَ: شُهُودُ التَّوْحِيدِ يَرْفَعُ الْحُدُوثَ أَصْلًا وَرَأْسًا، فَلَا يَكُونُ هُنَاكَ وُجُودَانِ- قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ- فَالتَّوْحِيدُ: هُوَ أَنْ لَا يُرَى مَعَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ سِوَاهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ تَقَسَّمَتِ الطَّوَائِفُ التَّوْحِيدَ انْقِسَامُ الطَّوَائِفِ فِي التَّوْحِيدِ وَسَمَّى كُلُّ طَائِفَةٍ بَاطِلَهُمْ تَوْحِيدًا. فَأَتْبَاعُ إِرِسْطُو وَ ابْنِ سِينَا وَ النَّصِيرِ الطَّوْسِيِّ، عِنْدَهُمُ التَّوْحِيدُ: إِثْبَاتُ وُجُودٍ مُجَرَّدٍ عَنِ الْمَاهِيَّةِ وَالصِّفَةِ، بَلْ هُوَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ، لَا يَعْرِضُ لِشَيْءٍ مِنَ الْمَاهِيَّاتِ، وَلَا يَقُومُ بِهِ وَصْفٌ، وَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَعْتٍ، بَلْ صِفَاتُهُ كُلُّهَا سُلُوبٌ وَإِضَافَاتٌ، فَتَوْحِيدُ هَؤُلَاءِ: هُوَ غَايَةُ الْإِلْحَادِ وَالْجَحْدِ وَالْكُفْرِ، وَفُرُوعُ هَذَا التَّوْحِيدِ: إِنْكَارُ ذَاتِ الرَّبِّ، وَالْقَوْلُ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّ النُّبُوَّةَ مُكْتَسَبَةٌ، وَأَنَّهَا حِرْفَةٌ مِنَ الْحِرَفِ، كَالْوِلَايَةِ وَالسِّيَاسَةِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَ الْأَفْلَاكِ وَلَا الْكَوَاكِبِ، وَلَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الْمَوْجُـودَاتِ الْمُعَيَّنَةِ الْبَتَّةَ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَلْبِ شَيْءٍ مِنْ أَعْيَانِ الْعَالَمِ وَلَا شَقِّ الْأَفْلَاكِ وَلَا خَرْقِهَا، وَأَنَّهُ: لَا حَلَالَ وَلَا حَرَامَ، وَلَا أَمْرَ وَلَا نَهْيَ، وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ، فَهَذَا تَوْحِيدُ هَؤُلَاءِ. وَأَمَّا الِاتِّحَادِيَّةُ، فَالتَّوْحِيدُ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ هُوَ عَيْنُ الْخَلْقِ الْمُشَبَّهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ، وَحَقِيقَتُهُ وَمَاهِيَّتُهُ، وَأَنَّهُ آيَةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَهُ فِيهِ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَيْنُهُ، وَهَذَا عِنْدَ مُحَقِّقِيهِمْ مِنْ خَطَأِ التَّعْبِيرِ، بَلْ هُوَ نَفْسُ الْآيَةِ، وَنَفْسُ الدَّلِيلِ، وَنَفْسُ الْمُسْتَدِلِّ، وَنَفْسُ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ، فَالتَّعَدُّدُ: بِوُجُودِ اعْتِبَارَاتٍ وَهْمِيَّةٍ، لَا بِالْحَقِيقَةِ وَالْوُجُودِ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَيْنُ النَّاكِحِ، وَعَيْنُ الْمَنْكُوحِ وَعَيْنُ الذَّابِحِ، وَعَيْنُ الْمَذْبُوحِ، وَعَيْنُ الْآكِلِ، وَعَيْنُ الْمَأْكُولِ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ: هُوَ السِّرُّ الَّذِي رَمَزَتْ إِلَيْهِ هَوَامِسُ الدُّهُورِ الْأَوَّلِيَّةِ، وَرَامَتْ إِفَادَتَهُ الْهِدَايَةُ النَّبَوِيَّةُ، كَمَا قَالَهُ مُحَقِّقُهُمْ وَعَارِفُهُمْ ابْنُ سَبْعِينَ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا التَّوْحِيدِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ مُؤْمِنُونَ كَامِلُو الْإِيمَانِ، عَارِفُونَ بِاللَّهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا عَبَدُوا عَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا غَيْرَهُ، وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ الْحَقَّ أَنْ لَا فَرْقَ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ، وَالزِّنَا وَالنِّكَاحِ، الْكُلُّ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ، وَإِنَّمَا الْمَحْجُوبُونَ عَنْ هَذَا السِّرِّ قَالُوا: هَذَا حَرَامٌ وَهَذَا حَلَالٌ، نَعَمْ هُوَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ فِي حِجَابٍ عَنْ حَقِيقَةِ هَذَا التَّوْحِيدِ، وَمِنْ فُرُوعِهِ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ ضَيَّقُوا الطَّرِيقَ عَلَى النَّاسِ، وَبَعَّدُوا عَلَيْهِمُ الْمَقْصُودَ، وَالْأَمْرُ وَرَاءَ مَا جَاءُوا بِهِ، وَدَعَوْا إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ، فَالتَّوْحِيدُ عِنْدَهُمْ: إِنْكَارُ عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ بِذَاتِهِ، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَإِنْكَارُ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَقَوَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، وَكَلَامِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَمَحَبَّةِ الْعِبَادِ لَهُ، فَالتَّوْحِيدُ عِنْدَهُمْ: هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ. وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ، فَالتَّوْحِيدُ عِنْدَهُمْ: هُوَ إِنْكَارُ قَدَرَ اللَّهِ، وَعُمُومِ مَشِيئَتِهِ لِلْكَائِنَاتِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، وَمُتَأَخِّرُوهُمْ ضَمُّوا إِلَى ذَلِكَ: تَوْحِيدَ الْجَهْمِيَّةِ، فَصَارَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ عِنْدَهُمْ: إِنْكَارَ الْقَدَرِ، وَإِنْكَارَ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، وَرُبَّمَا سَمَّوْا إِنْكَارَ الْقَدَرِ، وَالْكُفْرَ بِقَضَاءِ الرَّبِّ وَقَدَرِهِ: عَدْلًا، وَقَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ. وَأَمَّا الْجَبْرِيَّةُ، فَالتَّوْحِيدُ عِنْدَهُمْ: هُوَ تَفَرُّدُ الرَّبِّ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالْفِعْلِ، وَأَنَّ الْعِبَادَ غَيْرُ فَاعِلِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَا مُحْدِثِينَ لِأَفْعَالِهِمْ، وَلَا قَادِرِينَ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَمْ يَفْعَلْ لِحِكْمَةٍ، وَلَا غَايَةٍ تُطْلَبُ بِالْفِعْلِ، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوًى وَطَبَائِعُ وَغَرَائِزُ وَأَسْبَابٌ، بَلْ مَا تَمَّ إِلَّا مَشِيئَةٌ مَحْضَةٌ تُرَجِّحُ مَثَلًا عَلَى مَثَلٍ بِغَيْرِ مُرَجِّحٍ وَلَا حِكْمَةٍ وَلَا سَبَبٍ الْبَتَّةَ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْمَنَازِلِ- وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ- فَالتَّوْحِيدُ عِنْدَهُمْ: نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا غَيْرُ مَوْجُودٍ وَلَا مُمْكِنٍ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الْعَبْدِ رَبَّهُ، فَعِنْدَهُمْ: مَا وَحَّدَ الْوَاحِدُ مِنْ وَاحِــدٍ *** إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّــدَهُ جَاحِـدُ وَالثَّانِي: تَوْحِيدٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ تَوْحِيدُ الرَّبِّ لِنَفْسِهِ، وَكُلُّ مَنْ يَنْعَتُهُ سِوَاهُ فَهُوَ مُلْحِدٌ، فَهَذَا تَوْحِيدُ الطَّوَائِفِ، وَمَنِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ؟ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا التَّوْحِيدُ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ رُسُلُ اللَّهِ، وَنَزَلَتْ بِهِ كُتُبُهُ: فَوَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهُ وَهُوَ نَوْعَانِ: تَوْحِيدٌ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْإِثْبَاتِ، وَتَوْحِيدٌ فِي الْمَطْلَبِ وَالْقَصْدِ. فَالْأَوَّلُ: هُوَ حَقِيقَةُ ذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَأَسْمَائِهِ، وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَعُلُوِّهِ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَتَكَلُّمِهِ بِكُتُبِهِ، وَتَكْلِيمِهِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِثْبَاتِ عُمُومِ قَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ، وَحُكْمِهِ، وَقَدْ أَفْصَحَ الْقُرْآنُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ جِدَّ الْإِفْصَاحِ. كَمَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَدِيدِ، وَسُورَةِ طَهَ، وَآخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَأَوَّلِ سُورَةِ " تَنْزِيلُ " السَّجْدَةِ، وَأَوَّلِ سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ، وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ بِكَمَالِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ. النَّوْعُ الثَّانِي: مِثْلُ مَا تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}- الْآيَةَ وَأَوَّلِ سُورَةِ " تَنْزِيلُ الْكِتَابِ " وَآخِرِهَا، وَأَوَّلِ سُورَةِ يُونُسَ وَوَسَطِهَا وَآخِرِهَا، وَأَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَآخِرِهَا، وَجُمْلَةِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَالِبِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، بَلْ كُلُّ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِنَوْعَيِ التَّوْحِيدِ. بَلْ نَقُولُ قَوْلًا كُلِّيًّا: إِنَّ كُلَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِلتَّوْحِيدِ، شَاهِدَةٌ بِهِ، دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ: إِمَّا خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَهُوَ التَّوْحِيدُ الْعِلْمِيُّ الْخَبَرِيُّ، وَإِمَّا دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَخَلْعُ كُلِّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ، فَهُوَ التَّوْحِيدُ الْإِرَادِيُّ الطَّلَبِيُّ، وَإِمَّا أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَإِلْزَامٌ بِطَاعَتِهِ فِي نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ، فَهِيَ حُقُوقُ التَّوْحِيدِ وَمُكَمِّلَاتُهُ، وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ كَرَامَةِ اللَّهِ لِأَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ، وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُكْرِمُهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ جَزَاءُ تَوْحِيدِهِ وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّكَالِ، وَمَا يَحِلُّ بِهِمْ فِي الْعُقْبَى مِنَ الْعَذَابِ، فَهُوَ خَبَرٌ عَمَّنْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ التَّوْحِيدِ.
|